بسم الله الرّحمن الرّحيم
الْخطبة الرابعة لشهر شعبان بتأريخ 22\8\1446هـ-21\2\2025م
حول: استقبال شَهْرِ رمضانَ وآداب التَّثبُّت مِنْ رُؤيةِ الهلال
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ الَّذِي جَعَلَ شَهْرَ رَمَضَانَ شَهْرَ مَغْفِرَةِ وَهُدَى وَرَحْمَة وَبُشْرَى لِلْمُؤمِنِين الْعَامِلِين بِإِيمَانِهِمْ الْقَائِلِ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (البقرة: 185). نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى وَنَشْكُرُهُ وَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ؛ والصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَليه وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
أمَّا بَعْدُ,
فيا عباد الله, أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سِرّاً وَجَهْراً إِذْ هِيَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَكافَة الْمَأْمُوراتِ وَالْمَنْهِيات وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ“ (سورة آل عمران:102) .
إخْوَةَ الإيمان, هَذَا هُوَ اللِّقَاءُ الرّابعُ فِي شَهْرِ شَعْبَان, وبقيت أيام قليلة لقُدُومِ شَهرِ رَمَضَان الْمبارك, شَهْر المغفرة والرحمة والخيرات والبركات وَمَوْضُوعُ خُطْبَتِنَا اليومَ يدُورُ حَوْلَ: استقبال شَهْرِ رمضانَ وآداب التَّثبُّت مِنْ رُؤيةِ الهلال.
فَيا عِبَادَ اللهِ المسلمون المستمعون الْكِرَام, اليوم هو اليوم الثاني والعشرون من شهر شعبان ونستقبل شهر رمضان المبارك فكيف نغتنم خيرا كثيرا أثناءه حتى لا تفوت الخيرات التي يسديها علينا ؟ ولنعرف من رحمة الله بنا أن جعل لنا الفرص للاستكثار من فيضه . يقول الرّسول صلّى الله عليه وسلم: “إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعلّ أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدا” لنستخدم هذه الفرصة الذّهبية من الآن بالممارسة لإحسان علاقاتنا مع الله خالقنا سبحانه وتعالى ومع النّاس حولنا :
وأمّا مع اللهِ جَلَّ شَأْنُهُ: فَيتيح شهر رمضان للمسلم العديد من الوسائل التي من شأنها أن تحي قلبه، وتحسن صلته بربه من الآن بوسائل منها :-
أولا : التعلق بالمساجد؛ المسجد له دور كبير في تنوير القلوب؛ ففي المسجد تربط القلوب على طاعة الله وتحبس النفس عن معصيته. يقول صلى الله عليه وسلم: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط“.
ثانيا: المداومة على القرآن الكريم؛ رمضان شهر القرآن وقد كان من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مدارسة القرآن فيه … فهو وسيلة عظيمة لشفاء القلوب وهدايتها وتنويرها، قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (يونس: 57) وعلى قدر صلة المسلم بالقرآن تكون صلته بالله.
ثالثا : قيام الليل؛ قيام الليل من الوسائل المهمة في إحياء القلب، يقول صلى الله عليه وسلم: “عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد”.
رابعا : الدعاء ؛ الدعاء هو العبادة، ولا يرد القدر سواه، ففيه يتمثل فقر العبد وذله وانكساره إلى من بيده ملكوت كل شيء.ولنحذر من الدعاء باللسان دون حضور القلب. قال صلى الله عليه وسلم “واعلموا أن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاه” والأفضل من ذلك التخلي ممّا يحول دون الإجابة من الآن لقوله تعالى : ” وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فليستجيبوا لِي وَلِيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يُرْشِدُونَ”(البقرة:186).
ولنكثر من الدعاء لإخواننا المسلمين المضطهدين في كل مكان ولنخص المرابطين في فلسطين بحظ وافر من الدعاء..
خامسا : الصدقة ؛ إن المتأمل لكتاب الله عز وجل يجد الكثير من الآيات التي تحثّ المسلم على الإنفاق في سبيل الله، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان يقول تعالى: “خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا…” (التوبة: 103) فالمستفيد الأول من الصدقة هو صاحبها لأنها تخلصه من الشح وتطهره من الذنوب.
سادسا :محاسبة النفس؛ فَإن السعي بالخير وسط الناس له مردود إيماني كبير في قلب العبد المسلم، فهو يزيد الإيمان ويثبته ويصل بصاحبه إلي أن يكون محبوبا عند الله عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم: “أحب الناس إلي الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلي اللهِ عزَّ وجل سرور تدخله علي مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضى عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً…”
أيها المسلمون الكرام, إن الشريعة الإسلامية السمحة حين فرضت الصوم في شهر قمري ـ شرعت في إثبات دخول رمضان بالوسيلة الطبيعية الميسورة والمقدورة لجميع الأمة، والتي لا غموض فيها ولا تعقيد، والأمة في ذلك الوقت أميَّة لا تكتبُ ولا تحسب، وهذه الوسيلة هي رؤية الهلال بالأبصار.
فعن أبي هريرةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بشأن دخول رمـضان: ” صوموا لرؤيته – أي الهلال – وأفطروا لرؤيته فإن غُبِّيَ عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين . (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان، 656، معنى (غُبِّيَ) : من الغباء وهو الغبرة في السماء).
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عن دخول رمـضان فقال : ” لا تصوموا حتى تروا الهلالَ، ولا تُفطروا حتى تروه، فإن غَمَّ عليكم فاقدروا له ” نفسه، 653، ومعنى (غَمَّ) : أي أخفي وغطي بسحاب أو قترة أو غير ذلك وكان هذا رحمةً بالأمة، إذ لم يكلفها اللهُ العمـل بالحســاب، وهي لا تعرفـه ولا تحسنه،، فلو كلفت ذلك لقلدت فيه أمة أخرى من أهل الكتاب أو غيرهم ممن لا يدينون بدينها.
ثلاث طرق لإثبات دخول رمـضان: أوضحت الأحاديث الصحاح أنه يمكن إثبات دخول رمـضان بواحدة من ثلاث طرق: (1) رؤية الهلال، (2) أو إكمال عدة شعبان ثلاثين، (3) أو التقدير للهلال
1-رؤية الهلال لإثبات دخول رمـضان:
فقد اختلف فيها الفقهاء : أهي رؤية واحد عدل، أم رؤية عدلين اثنين، أم رؤية جم غفير من الناس ؟
فمَنْ قال : يقبل شهادة عدل واحد، استدلَّ بحديث ابن عمر، قال : تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي أني رأيته، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه (رواه أبو داود (2342)، والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم، قال الدارقطني : تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة، ذكره النووي في المجموع 276/6) . . وبحديث الأعرابي الذي شهدَ عند النبي أنه رأى الهلال، فأمر بلالاً فنادى في الناس ” أن يقوموا ويصوموا ” (رواه أبو داود (2341)، والترمذي مرسلا ومسندا، وقال : فيه اختلاف (691)، والنسائي، وقال : المرسل أولى بالصواب، وابن ماجة 1652)، وفي سنده مقال . كما قالوا : إن الإثبات بعدل واحد أحوط للدخول في العبادة، وصيام يوم من شعبان أخف من إفطار يوم من رمـضان.
ومَنْ اشترط في رؤية الهلال وإثبات دخول رمـضان عدلين، استدل بما روى الحسين بن حريث الجدلي قال : خطبنا أمير مكة الحارث بن حاطب، فقال : أمرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ننسكَ لرؤيته، فإن لم نَرهُ فشَهدَ شاهدان عدلانِ نَسَكْنا بشهادتيهما (رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري، ورجاله رجال الصحيح، إلا الحسين بن حريق وهو صدوق وصححه الدارقطني في نيل الأوطار 261/4 ط دار الجيل بيروت). وقياسًا على سائر الشهود، فإنها تثبت بشهادة عدلين..
أمّا من اشترط الجم الغفير أو الجمع الكثير فهم الحنفية، وذلك في حالة الصحو، فقد أجـازوا في حالة الغيم أن يشهد برؤية الهلال وإثبات دخول رمـضان شخص واحد، إذ قد ينشقُّ عنه الغيم لحظـة فيراه واحـد، ولا يراه غيره من الناس . ولكن إذا كانت السماءُ مصحة، ولا قَتَر ولا سحابَ ولا علةَ، ولا حائل يحول دون الرؤية، فما الذي يجعل واحدًا من الناس يراه دون الآخرين ؟ لهذا قالوا: لابد من إخبار جمع عظيم؛ لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية ـ مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه، مع فرض عدم المانع، وسلامة الأبصار ـ وإن تفاوتت في الحدة ظاهر في غلطه (ذكره في حاشية ابن عابدين نقلا عن البحر 92/2).
وأما خبر ابن عمر والأعرابي ـ وفيهما إثبات الهلال برؤية واحد ودخول رمـضان ـ فقد قال العلامة رشيد رضا في تعليقه على ” المغني” : “ليس في الخـبرين أن الناس تراءوا الهلالَ، فلم يره إلا واحد، فهما في غير محل النزاع، ولاسيما مع أبي حنيفة، وبهذا يبطل كل ما بني عليهما”. (انظر التعليق على المغني مع الشرح 93/3).
وأمَّا عدد الجمع العظيم فهو مفوض إلى رأي الإمام أو القاضي من غير تقدير بعدد معين على الصحيح(انظر الاختيار في شرح المختار 29/1) .
ومن الواجب على المسلمين التماس الهلال (ومن ثم ودخول رمـضان) يوم التاسع والعشرين من شعبان عند الغروب ؛ لأن ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب، إلاَّ أنه واجب على الكفاية
2-إكمال عدة شعبان ثلاثين لإثبات دخول رمـضان:
إكمال عدة شعبان ثلاثين، سواء كان الجو صحوًا أم غائمًا، فإذا تراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ولم يره أحد، استكملوا شعبان ثلاثين . ويعتبر هذا الأمر دليلا على دخول رمـضان.
وهنا يلزم أن يكون ثبوت شعبان معروفا منذ بدايته، حتى تعرف ليلة الثلاثين التي يتحرى فيها الهلال ومن ثم دخول رمـضان، ويستكمل الشهر عند عدم الرؤية التي تعني عدم دخول رمـضان. وهذا أمرٌ يقع فيه التقصير؛ لأن الاهتمام بإثبات دخول الشهور لا يحدث إلا في أشهر ثلاثة فقط : دخول رمـضان للصيام، وشوال لإثبات الخروج منه، وذي الحجة لإثبات يوم عرفة وما بعده. وينبغي على الأمةِ، وعلى أولي الأمر فيها التدقيق في إثبات الشهور كلها، لأن بعضها مبني على بعض. ودخول رمـضان يقتضي رؤية هلال شعبان.
3-التقدير للهلال لإثبات دخول رمـضان:
هي التقدير للهلال لإثبات دخول رمـضان عند الغيم، أو كما قال الحديث : ” إذا غمَّ عليكم ” أو ” غمي عليكم ” أو “غبي عليكم” أي حال دونه حائل، ففي بعض الروايات الصحيحة، ومنها مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وأصَحّ الأسانيد عند البخاري : ” إذا غم عليكم فاقدروا له “، فما معنى ” اقدروا له”؟
قال النووي في المجموع : (قالَ أحمد بن حنبل وطائفةٌ قليلة : معناه : ضيِّقوا له، وقدروه تحت السحاب، من ” قدر ” بمعنى ضيق كقوله : (قُدِرَ عليه رِزْقهُ) وأوجب هؤلاء صيام ليلة الغيم. وقال مطرِّف بن عبد الله ـ من كبار التابعين ـ وأبو العباس بن سريج ـ من كبار الشافعية ـ وابن قتيبة وآخرون : معناه : قدروه بحسب المنازل.
وقال أبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف : معناه : قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا.
واحتج الجمهور بالروايات التي ذكرناها، وكلها صحيحة صريحة : ” فأكملوا العدة ثلاثين “، ” فاقدروا له ثلاثين “، وهي مفسرة لرواية : ” فاقدروا له ” المطلقة). (المجموع 270/6 )
ولكن الإمام أبا العباس بن سريج لم يحمل إحدى الروايتين على الأخروي، بل نقل عنه ابن العربي أن قوله : ” فاقدروا له ” : خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله : “أكملوا العدة ” خطاب للعامة. (انظر : فتح الباري 23/6، ط .الحلبي). نسأل الله العظيم أن يهلّ هلاله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام لما يحبّ ويرضى.
الخطبة الثانية
الحمد لله “الَذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ” (الملك:2)، أحمده سبحانه وأشكره، “…لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمَ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” (القصص:70)، وأشـهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد؛ فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فما أوصى موص بخير منها، وما عمل عامل بأفضل منها، إنها أعظمُ وصية، وأفخرُ لباس وحِلية، يقول عز وجل: “…وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ” (الأعراف: 26).
أيها المسلمون: لقد جاءت شريعة الإسلام المباركة – فيما جاءت به من تشريعات وأحكام – بما يحقّق الأمن والاطمئنان لبني الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وفي الآخرة، واتفّقت الشّرائع السّماوية على حفظ الضروريّات للحياة الإنسانيّة، ووجوب رعايتها، والعناية بها.
وإنَّ في طليعة هذه الضروريّات الّتي اتفّقت الشّرائع على رعايتها حفظَ النّفس الإنسانيّة، والعنايةَ بسلامة الأرواح البشريّة عن كل بغي وعدوان قد يُلحق بها ضرراً، أو يودّي بها إلى التّلف والهلاك، إلاّ أن تستوجب ذلك حين تتجاوز سنن الله المشروعة، وأحكامه المفروضة، فعندئذ ترتفع عنها الحصانة الشرعية، والحرمة الربانية، وتستحق حينئذ أن تعاقب على قدر جنايتها، وأن تجازى بمثل صنيعها، جزاء ما اقترفت، ومؤاخذة بما فعلت، وما ربّك بظلام للعبيد، يقول عزّ وجل في النهي عن قتل النفس بغير حق: “وَلَا تَقُتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” (الأنعام:151). إنّه الحقّ الّذي شرعه الله تعالى، وأوضحه رسوله حيث قال: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النّفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة”، أما ما سوى هذا الحق المشروع في إزهاق الروح الإنسانية، فقد حرمه الإسلام أعظم تحريم، ونهى عنه النهي الشديد، وعدَّ إزهاق روح المعصوم مسلماً كان أو غير مسلم عمداً وقصداً، جريمةً من أعظم الجرائم، وكبيرةً من أكبر الكبائر، وموبقةً من أخطر الموبقات، تلي الشرك بالله تعالى في الإثم والعقوبة، يدل على ذلك ما أخرجه الشيخان ؛أنه سئل: أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك، فأنزل الله عز وجل تصديقها في قوله سبحانه: “وَالذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهَ إِلَهاً آخرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالحَقِّ وَلَايَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً،يُضَاعَفُ لَهُ العَذَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدُ فِيهِ مُهَاناً” (الفرقان:68- 69).
ولقد بلغ من تحريم الإسلام لهذه الجريمة النكراء أن الله تعالى جعل قتل النفس الواحدة تعدل جريمة قتل الناس جميعاً، وذلك لأنّ حقّ الحياة ثابت لكلّ نفس، فقتل واحدة من هذه النفوس يعتبر تعدياً على الحياة البشرية كلها، كما قال عز وجل: “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً” (المائدة: 32).
قال الإمام ابن العربي رحمه الله تعليقاً على إحدى الآحاديث الناهية عن الجريمة : ” ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق، والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي؟ …” ولذا قال عليه الصلاة والسلام: ” لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً”( رواه البخاري في صحيحه)
عباد الله الكرام ! نحن في عصر يتقّدم الناس لاقتراف هذه الجريمة النكراء، والفعلة الشنعاء، من تأصل الشرُّ في نفوسهم، والعدوانُ في طبعهم، وانتزِاع الرحمة من قلوبهم، والتخلّى عن بشريتّهم. وقد لا تؤبأ بهذه الجريمة من أحد عادي لا دين له لأنّه لا يعرف شيئا عن الإنسانيّة. ،ولكن ماذا نقول في شخص يدّعي أنّه متديّن يرتدي في الزي الرّباني ومن بيت دين مشهور بالرّبانيّة ؟ فديننا منه بريء ومن أمثاله ! ونحن نستخدم هذه الفرصة لتعزية والدي ضحيّة هذا القتل الفتّاك في مدينة إيلورن.نسأل الله تعالى أن يمنحهم القوّة لتحمّل الخسارة وأن يجعلها ذخرا لهما.
فاتّقوا الله عباد الله، واحذروا ممّا حذرّكم الله منه، واجتنبوا ما نهاكم عنه، وتعاونوا على كفّ البغي والعدوان، والأخذِ على أيدي المجرمين المعتدين، وتنفيذ أحكام الله تعالى فيهم، دون رأفة أو هوادة، ولا تأخذكم في الله لومة لائم ليكون عبرة للآخرين، فإن ذلك ممّا يكفل الأمن والأمان في البلاد، وينشر الطمأنينة والسّلام بين العباد، كما قال الحق عز شأنه: “ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلكم تتقون” (البقرة:179).
الدّعاء:
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، والعِزَّةِ الَّتِي لا تُضَام، عَلَيْكَ بِالظَّالِمِينَ اليَهُود المُحتَلين المُعتَدِينَ فِي فلسطين وسائرِ بِلادِ الْمُسلمين، وبِمَنْ حَمَى لَهُمْ ظَهْرًا، وبِمَنْ أَطَاعَ لَهُمْ فِي البَاطِلِ أَمْرًا، وبِمَنْ سَوَّغَ لَهُمْ مُنْكَرًا، وبمنْ أَمَدَّهُمْ في غَيِّهِمْ، وبمنْ أَعَانَهم على ظُلْمِهِمْ، وعَلَيْكَ بِمَنْ قَتَلَ الأبْرِيَاءَ بغَيْرِ حَقٍّ، وبِمَن اعتَقَلَ الشُّرَفَاءَ بغَيْرِ حَقٍّ، وبِمَنْ آذَى الْمُسْلِمينَ والسِّلْمِيِّينَ بغَيْرِ حَقٍّ، اللَّهُمَّ لَا تَهْدِ لَهُمْ كيْدًا فإنَّهُمْ خَائِنُون، ولَا تُصْلِحْ لَهُمْ عَمَلًا فإنَّهُم مُفْسِدُون، ولَا تُحَقِّقْ لَهُمْ رَغْبَةً ولَا أَمَلًا فإنَّهُم ظَالِمُون، وحُلْ بَيْنَهُمْ وبيْنَ ما يشْتَهُون وما يُرِيدُون، وَلا تزِدْهُمْ يَا رَبَّنَا إلا سُقُوطًا وفَشَلًا فإنَّهُمْ مُبْطِلُون، ولَا تَرْفَعْ لَهُمْ رَايَةً، وَلَا تُحَقِّقْ لَهُمْ هَدَفًا ولَا غَايَةً، وأَخْزِهِمْ واجْعَلْهُمْ للنَّاسِ عِبْرَةً وآيَة. وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّين وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا.