وجوب امتثال أوامر الله في جميع الأمور

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الْخطبة الأولى لشهر رمضان بتأريخ 7\9\1446هـ-7\3\2025م

حول: وجوب امتثال أوامر الله في جميع الأمور

الخطبة الأولى

الحمد لله الكبير المتعال، له العزة والمجد والإجلال، أحمده سبحانه، وأشكره على جوده المتوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، من نال بحسن خلقه غاية الكمال، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، أفضل الخلق أجمعين، وأزكى الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، وأطيعوه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، واعلموا أن على المسلم حقوقًا أوجبها الإسلام، وحث عليها، وجعلها من مقومات الدين، ورتب عليها الثواب العظيم، والفضل الجسيم . يقول الله عز وجل: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل:90)

إخوة الإيمان!إنّ قضية المتثال لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم من القضايا المهمّة في حياة كلّ مسلم.وإن قلنا الامتثال؛ فهو سرعة الاستجابة للأمر(معجم اللغة العربيّةج.2 ص.2066)

عباد الله الكرام؛ إنّ مَن عمَّر حياته بتقواه لمولاه عاش سعيدا ومات حميدا، ألا فاتّقوا الله -عباد الله- في أقوالكم وأفعالكم، في أعمالكم وتصرفاتكم، في جميع ما تأتون وتذرون، لعلكم تفلحون؛ جعلني الله وإياكم وأهلينا وذرياتنا من عباد الله المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فالله عز وجل يأمر بالعدل فيما يتعلق بحقوقه وما افترضه على عباده، وبالعدل فيما يتعلق بحقوق العباد بعضهم مع بعض، والعدل هو القيام بالواجب على وجهه سالمًا من التفريط والإفراط، ومن أعظم ما يدخل فيه من حقوق الله، تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، علمًا، وعملًا، واعتقادًا، ومحبة ً وإجلالًا، وتعظيمًا، ظاهرًا، وباطنًا، والقيام بما هو من حقوقها ولوازمها، وهو أداء الفرائض، والواجبات الشرعية بإخلاص، ونية صادقة، وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله بمحبته وطاعته صلى الله عليه وسلم ، ومتابعته متابعة صادقة، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، سواء ما يلائم النفس، أو ما لا يلائمها، لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به”

وأمر سبحانه بالإحسان، وهو أمر بالعطف والبرّ والصّلة والشفقة على من تحت يدك، وعلى المحتاجين إليك، بجاهك، وبعلمك، ومالك، وما استطعت من أصناف الإحسان وضروب الخير واستعمال الرفق في جميع شؤونك، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»، وقد أخبر سبحانه بمحبته للمحسنين بقوله: “…وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (البقرة:195)

وأمر سبحانه بإيتاء ذي القربى، أي إعطاء القرابة حقّها، من صلة وزيارة، ومساعدة، بما يحتاجونه منك، وأكد سبحانه حق القرابة في عدة آيات من كتابه، قال عز وجل: “وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ” (النساء:1) ويقول عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه»، ومعنى ينسأ له في أثره: أن يؤخر في أجله وعمره، وإن أحق القرابة بالبر الوالدان ثم الأقرب فالأقرب.

ونهى سبحانه عن الفحشاء والفحشاء كل أمر قبيح فاحش من الأمور التي حرمها الشرع وحذر منها، وعن المنكر أي ما أنكره الشرع وحذر منه، ومن أعظم المنكرات الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، والزنا، وعقوق الوالدين، وغير ذلك ممّا نهى الله عنه ورسوله.

ونهى سبحانه عن البغي، وهو التّطاول على النّاس بالظّلم والتّكبّر عليهم، والازدراء لهم، والحقد، والحسد، وإن البغي عاقبته وخيمة ويخشى من تعجيل عقوبته في الدنيا، مع عقوبة الآخرة، ويعود وباله وثمرة بغيه على من اتصف به يقول سبحانه: “إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ” (يونس:23)

عباد الله المستمعون الكرام ؛ لقد حذر من ذلك صلّى الله عليه وسلم بقوله: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفجر أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد”

أيها المسلمون: هذه أوامر ونواه إلهية، يجب على كل مسلم امتثال أوامرها، واجتناب نواهيها، وهي مواعظ قرآنية، ينبغي تذكرها في كل حين، ويجب العمل بها بقدر المستطاع، وهي تعاليم من تعاليم ديننا الحنيف، يحرص المسلم أن يتصف بها ليتم إسلامه، ويكمل إيمانه، ويكون من عباد الله المؤمنين، الذين وعدهم الله مغفرة، وأجرًا عظيمًا .

ولقد كان من توجيهاته صلى الله عليه وسلم ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» متفق عليه. وعند الترمذي والنسائي: «والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»، وعند البيهقي: «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله»، وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: « أن يسلم قلبك لله عز وجل، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك”

عباد الكرام ؛ إن في هذا النبيّ الكريم أسوة حسنة عن امتثال أوامر الله لمن كان يرجو الله واليوم والآخر منها ؛

1. تبليغ الرسالة : قال الله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ” (المائدة: 67).

قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وقام به أتم القيام؛ (تفسير ابن كثير جـ 3 صـ: 150).

روى مسلم عن جابر بن عبدالله (وهو يصف حجة الوداع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟”، قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: “اللهم اشهَد، اللهم اشهد” ثلاث مرات؛ (مسلم حديث: 1218).

2. رحمته بالأمّة :  قال تعالى: ” لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ” (التوبة: 128).

لقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله تعالى برحمته لأمته، ويتجلى ذلك في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم:

روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه” (البخاري حديث 3560/ مسلم حديث 2327).

3. صبره(صلى) في سبيل الله :  أمر الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين والمنافقين، فقال سبحانه: ” وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ” (المزمل: 10).

وقال سبحانه: ” فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ” (الأحقاف: 35).

قال المشركون عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر، وقالوا: كاهن، وقالوا: مجنون، واتَّهَم المنافقون زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، فصبر، حتى أنزل الله براءتها في قرآن يتلى إلى يوم القيامة،لقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لا يتحمله بشر.

4. عدله بين النّاس : قال الله تعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ” (النساء: 58). روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومَن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فكلَّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟))، ثم قام فاختطب، ثم قال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعتُ يدها))؛ (البخاري حديث 3475 / مسلم حديث 1688).

5.  دعوته (صلّى) بالحكمة والموعظة الحسنة :قال تعالى: ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ” (النحل: 125).

فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية الربانية، وكان يجادل المشركين وأهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا.

روى أحمد عن أنس: أن غلامًا من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وهو بالموت، فدعاه إلى الإسلام، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، ثم مات، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه بي من النار”؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد ج21 حديث 13375).

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وصلّ اللّهم وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين،وبعد:

عباد الله الأعزاء ؛ إنّ أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم هم الصفوة المختارة من البشرية بعد الأنبياء والمرسلين، وقد زكاهم الله تعالى في مواضع عديدة في كتابه العزيز، ومدحهم النّبي صلّى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه الشريفة عن  نماذجهم الـمشرفة لاستسلامهم لأوامر الله تعالى، وسرعة انقيادهم وطاعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم في مجالات عدّة كمثل إنفاقهم في سبيل الله :-

 أبو بكر الصِّدِّيق وعمر بن الخطاب

روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيت لأهلك؟”، قلتُ: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيتَ لأهلك؟”، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا؛ (حديث حسن صحيح أبي داود للألباني حديث) 1472)

عثمان بن عفان

روى أحمد عن عبدالرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول: “ما ضرَّ ابنَ عفان ما عمل بعد اليوم” يرددها مرارًا؛ (حديث حسن) (مسند أحمد جـ 34 صـ 232 حديث: )20630

 أبو طلحة الأنصاري

روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: ” لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ” (آل عمران: 92)، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: ” لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ “(آل عمران: 92)، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال: “بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين”، قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه” (البخاري ومسلم)

هذه النفقة- أيها المسلمون- هي سبيل الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، الذين كانوا يجودون بما آتاهم الله من فضله، يبتغون ما عند الله من ثوابٍ وأجر، قال أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، وقد جاءه رجلٌ فسأله فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع الرجل إلى قومه يقول لهم: “أسلموا؛ جئتكم من عند خير الناس، إنَّ محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبدًا”  وكان أجود ما يكون في رضان كالريح المرسلة.

الدعاء: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم مَتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدًا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، واجعلنا أهلًا لأن يُستجاب دعاؤنا يا رب العالمين. اللهم اجعلنا صالحين في ظواهرنا وبواطننا حتى نكون أهلًا لأن يُستجاب لنا.

واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا، وعليك بمن عادانا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا آمين..

Scroll to Top