TMC Friday Khutbah Banner (Website)

وجوب التّوبة إلى الله والتحلل من مظلمة الناس

بسم الله الرّحمان الرّحيم

الخطبة الرابعة لشهر شوال بتاريخ 22 شوال 1444هـ (12\5\2023م)

وجوب التّوبة إلى الله والتحلل من مظلمة الناس

الحمد لله الرّحيم التّوّاب، غافر الذّنب، وقابل التّوب، شديد العقاب، الملك العزيز الوهاب. أحمدربّي وأشكره وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له؛يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من أناب. وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدا عبده ورسوله المخصوص بأفضل كتاب. اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:

عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن الله قد أوجب التوبة على عباده المؤمنين، فقال تعالى: ﴿وَتُوبُواإِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَعَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ وقال سبحانه : ﴿وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾

وقد أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالتوبة والإستغفارـ كما عند مسلم في صحيحه مرفوعا “ياأيها الناس، توبو اإلى الله، فإني أتوب اليه في اليوم مائة مرة” وفي رواية عند البخاري قال: “والله إني لأستغفرالله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”  فهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله و يتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، فكيف بمن دونه من الناس؟!

وقد تضافرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة على كل مسلم ومسلمة، ومن جميع الذنوب والمعاصي بدون استثناء؛ صغيرة كانت أم كبيرة.

والتوبة ـ عباد الله ـ هي الإقلاع عن الذنب من ترك واجب أو فعل محرم، فهي الرجوع من معصية الله إلى طاعته سبحانه و تعالى. وكما أن لكل عمل من الأعمال شروطًا، فإن للتوبة شروطًا كذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواتُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ أي:  توبة صادقة، ولتكون التوبة توبة نصوحًا كما قال تعالى وتكون مقبولة و صحيحة يجب أن يتوفر فيها شروط: فإن التوبة من الذنب على حالتين،

أ- الحالة الأولى : أن يكون الذنب بين العبد وبين ربه سبحانه، ولا يتعلق بحق آدمي آخر، ففي هذه الحالة للتوبة خمسة شروط:

الشرط الأول: الإقلاع عن المعصية، من ترك واجب أو فعل محرم.

الشرط الثاني :الندم على فعلها بأن يشعر بالحزن على فعله لتلك المعصية، ويتمنى أنه لم يفعلها، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلمالندم توبة صححه الألباني

الشرط الثالث :العزم على عدم الرجوع إلى ذلك الذنب؛ أن تعزم بإرادة قوية في قلبك أن لا تعود أبدًا إلى تلك المعصية مستقبلاً.

الشرط الرابع:  الإخلاص، بأن يقصد بها وجه الله رغبة في مغفرته وثوابه، وخوفًا من عذابه وعقابه، ولا تصح التوبة إذا كانت خوفًا من عصا سلطان، أو رغبة في جاه أو مال أو شيء من عرض الدنيا.

الشرط الخامس:  أن تقع التوبة قبل إغلاق بابها، ويغلق باب التوبة عندالغرغرة، كما قال تعالى:  ﴿وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ ،وقال عليه الصلاة والسلام” إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر”  صحيح الترمذي وكذلك عند طلوع الشمس من مغربها، قال صلى الله عليه و سلم  من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه.”

2- وأما الحالة الثانية: إذا كان الذنب بين آدمي وآدمي آخر ففي هذه الحالة يجب أن يتوفر في التوبة ستة شروط، الخمسة التي ذكرناها سابقًا، والشرط السادس : أن يبرَأ التائب من حق صاحبه، فإن كان أخذ ماله رده إلى صاحبه، وإن كانت غيبة استحله منها، فإن فقدت التوبة أحد الشروط لم تصح.

الخطبة الثّانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده وعلي آله وصحبه ومن تبعهم إلي يوم لا يوم بعده

ومن مسائل التوبة ـ عباد الله ـ:

1- أنه قد يحدث للمسلم أن يتوب من ذنب ما، ثم يمرّ عليه وقت و يقع في الذنب مرة أخرى بعد توبته منه، فوقوعه في الذنب لا يبطل توبته الأولى، ما دام يأتي في كل مرة بشروط التوبة

2-  أن التوبة من بعض الذنوب دون الأخرى صحيحة على الراجح من أقوال أهل العلم، فإذا كان الإنسان تاركًا للصلاة ولايؤدي زكاة أمواله، فتاب من ترك الصلاة وأصبح يصلي، فتوبته صحيحة، و تبقى عليه معصية و كبيرة منع الزكاة.

3- أنه لا يجوز أن يوصف الإنسان بذنب قد تاب منه، وفي الحديث الثابت: “التوبة تجب ما قبلها

4- أنه لا ينبغي للإنسان أن يظن بنفسه السلامة من الذنب؛ فإن ذلك من مكايد الشيطان. قال صلى الله عليه و آله و سلم: “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” حسنه الألباني

5- إياكم إخوة الإسلام ـ أن تحقروا ذنبًا من الذنوب، وتحسبوه صغيرًا فتترك التوبة منه، فقد تحقر ذنبًا وتراه عيناك صغيرًا و هو عند الله عظيم، والذنب الصغير مع الذنب الصغير يتراكم و يصبح كبيرا.  لا تحقرن صغيـرة *** إنّ الجبال من الحصى

6-  أنه لا يجوز ارتكاب الحرام بنية التوبة، فإن ذلك مما يسهل على الإنسان ارتكاب المعاصي بالحيل الباطلة. وكل هذا تلبيس من إبليس، وكيد من مكائده لإيقاع الناس في الحرام، وأنت أيها الأخ لا تدري متى يحين وقت رحيلك، وهل بقي من عمرك فسحة للإقلاع من الذنب؟ فكم من شخص جاءته منيته وزجاجة الخمر في يديه! وكم من شخص جاءه قابض الأرواح وهو في طريقه إلى المعاصي؟

7- ينبغي على المسلم أن يعلم أن الجهر بالمعصية أخطر وأعظم إثماً من الإسرار بها، قال صلى الله عليه و سلم : ” كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا ، ثُمَّ يصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ ، فيقولَ : يا فلانُ ، عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا ، وقد باتَ يسترُه ربُّهُ ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ”  (متفق عليه) ذلك لأن المجاهرة بالمعصية فيه دعاية و إشهار للحرام، والناس مفطورون على حب التوافق ومشابهة بعضهم بعضًا خاصة عند قصار العقول و ضعاف النفوس فيزين لهم الشيطان ارتكاب الحرام، فيكثر الفساد ويشيع و ينتشر في أوساط المسلمين، فمن ستر معصيته عن أعين الناس و ستر نفسه مع ترف بذنبه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة و وفقه للتوبة.

8- أن من الناس من قد أسرف على نفسه بكثرة الذنوب والمعاصي حتى غرق فيها، ويرى نفسه أنه قد هلك بها فيدخله القنوط واليأس من رحمة الله، وإذا تذكر التوبة أيس وظن أنه لا توبة له، ومثل هذا نقول له: استمع ـ ياأخي المسلم المذنب ـ إلى هذا النداء الرباني، نداء الرحمن الرحيم، قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاتَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وقال تعالى عن يعقوب:﴿ وَ لا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾، وقال أيضًا: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لايَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ وقال صلى الله عليه و سلم : لولا أنكم تذنبون لخلقَ اللهُ خلقًا يذنبون ، يغفرُ لهم رواه مسلم

 9- وعلى عكس هذا من يرتكب المعاصي من السرقة والزنا وأكل أموال الناس بالباطل، ومن التبرج والسفور، حتى إذا نصح قال بكل ارتياح و طمأنينة: ربي غفور رحيم. فنقول: نعم صدقت، إن الله غفور رحيم، قال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ﴾ وقال تعالى: ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون﴾

نعم ربنا غفور رحيم لكن لمن اعترف بذنبه و تاب و آمن وعمل صالحًا، وشديد العقاب لمن تكبر على الله تعالى، وأصر على ذنبه، وتهاون في الرجوع والتوبة، وقد كان من تمام منهج الأنبياء والصالحين من عباد الله الجمع بين الخوف و الرجاء، فلا يؤخذ بالرجاء و يهمل الخوف، أوالعكس، بل يؤخذ بهما معًا.

قال تعالى -يمتدح عباده الصالحين-: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا للتوبة النصوح, وأن يجعلنا من التوابين المستغفرين اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار.اللهمّ إليك أسلمنا نفوسنا وإليك وجّهنا وجوهنا ، وإليك ألجأنا ظهورنا وإليك فوّضنا أمورنا. فاحفظنا بحفظ الإيمان من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ومن تحتنا ومن قبلنا وادفع عنّا وأمنّا في وطننا بحولك وقوّتك فإنّه لا حول ولا قوّة إلاّ بك. وأعزّ الإسلام والمسلمين وأذلّ الشرك والمشركين ودمّر أعداء الدّين ،واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنّا وسائر بلاد المسلمين يا ربّ العالمين . ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم وتب علينا يا ربّ العالمين. وصلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله واصحابه أجمعين.

Scroll to Top