بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثانية لشهر جمادى الأولى بتأريخ 09\5\1447ه الموافق ب 31\10\2025م)
حول: اغتنام مواسم الخير والأوقات الفاضلة.
الخُطْبَةُ الأُولَى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله و صحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ، أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي الْمُقَصِّرَةَ أَوَّلًا بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سِرًّا وَجَهْرًا، إِذْ هِيَ الغَايَةُ المَقْصُودَةُ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَسَائِرِ المَأْمُورَاتِ وَالمَنْهِيَّاتِ. قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].
واعلموا- عباد الله- أن الله تعالى من واسع رحمته ولطفه بهذه الأمة اختار لها أزمنة محدودة، ومواسم معدودة يتسابقون فيها للطاعات، ويشمرون فيها عن ساعد الجد بالعمل الصالح الموصل إلى مرضاة الله جل جلاله؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فينبغي على الإنسان أن يهيئ نفسه لهذه المواسم، فيغتنمها ولا يغفل عن العمل الصالح فيها حتى ينال رضا الله عز وجل ويكون من الفائزين.
وما من هذه المواسم الفاضلةُ موسمٌ إلا وللَّهِ تعالى فيه وظيفةٌ من وظائفِ طاعاتِهِ، يتقرَّبُ بها إليه، وللَّهِ فيه لطيفةٌ من لطائفِ نفحاتِهِ، يُصيبُ بها من يعودُ بفضلِهِ ورحمتِهِ عليه، فالسعيدُ من اغتنمَ مواسمَ الشهورِ والأيامِ والسَّاعاتِ، وتقرَّبَ فيها إلى مولاهُ بما فيها من وظائفِ الطَّاعاتِ، فعسى أن تصيبَهُ نفْحةٌ من تلكَ النَّفحاتِ، فيسعدُ بها سعادةً يأمَنُ بعدَها من النَّارِ وما فيه من اللَّفَحَاتِ. قال الله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عِنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [ آل عمران: 185 ].
عباد الله، وأحوال الناس في مواسم الطاعات مختلفة متنوعة متفاوتة كتنوعهم وتفاوتهم في الأعمار والأرزاق، فمنهم مقل ومستكثر وشقي وسعيد، و “كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا”(مسلم).
فالناس على صنفين: صنف علِم الغاية التي من أجلها خُلق، فعلم أنه لم يخلق ليأكل أو يشرب أو يلهو ويلعب أو يتمتع ويلبس، لكنه علم أن الله عز وجل خلقه لعبادته وطاعته وصنف آخر غافل لاه ساه، لا يعرف قيمة وقته ولا عمره ولا يعرف حق رازقه وخالقه، فتجده مضيعًا لأوقاته في اللهو واللعب، تمر عليه الأيام والسنين فلا ينتبه ولا يعتبر ولا يشعر بقيمتها ولا بفضائلها.
عباد الله، إذا ورد العبد على ربه يوم القيامة تبين وتميز ربحه من خسرانه، وما بعد الموت إلا واحدة من اثنتين فإما أن يخلد في نعيم وإما أن يخلد في عذاب. فلا بد للمرء أن يأخذ بالأسباب التي تقربه من ربه تبارك وتعالى حتى يتوصل بها إلى مرضاته سبحانه، وهناك من الوسائل التي تعين على اغتنام مواسم وأوقات الطاعة والخير ومن جملة ذلك:
1-التوبة وكثرة الاستغفار:
وأول الأمور التي لابد أن يستقبل بها المرء مواسم الخير والطاعات أن يتوب وينوب إلى ربه تبارك وتعالى، ويعترف بتقصيره حتى يستقبل أوقات الطاعة بقلب خالٍ من الذنوب نقيٍ، فيكثر من الاستغفار، لأن العبد قد يحال بينه وبين العمل الصالح بسبب ذنوبه، ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستفتح الصلاة التي هي أحب الأعمال إلى الله بقوله: ” اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَالثَّوْبِ الْأَبْيَضِ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ”.
2-صدق النية لله تعالى:
ولا يعلم أحوال القلوب والنيات إلا الله، ومن توجه في طلب شيء إلى ربه بقلب صادق مخلص، وصدق عزيمة رُزق التوفيق والتيسير والإعانة من الله، وأعطاه الله تعالى ما تمناه، ومن صدق الله صدقه الله تعالى.
3-استشعار قصر الأجل والعمُر:
لابد للمرء أن يستشعر في نفسه قصر أجله وقصر عمره، وإذا استقبل المرء مواسم الخير وهو قاصر الأمل يقول: لا أدري أعيش غدًا أم لا، فلا شك أن هذا من أعظم الأمور والأسباب المعينة على اغتنام مواسم الطاعات، والإنسان مهما طالت حياته وطال عمره لابد له في النهاية أن يموت، وليس بين المرء وأمر الآخرة إلا قبض روحه، والموت لا يدع صغيرًا لصغره ولا يدع كبيرًا لكبره، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]
4-دعاء الله بالتوفيق إلي الخير:
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الدعاء بالخير ويسأل الله عز وجل دائمًا التوفيق والسداد والثبات، ومن وقف بباب ربه يسأله أن يفيض عليه من رحماته وفضله، فإنه الكريم سبحانه لا يرد من سأله، فقد تكفل الله جل جلاله أن يعطى كل سائل ما سأل وما طلب، وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يقول: ” إنّي لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن همَّ الدعاء. فإذا أُلهِمتُ الدعاءَ فإنّ الإجابة معه.
5-الاقتداء بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في المواسم:
وأولى الناس برحمات الله وهدايته وفضله من تأسى بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فلا سبيل إلى التوفيق والسداد في مواسم الخير والطاعات إلا بالاقتداء بهدي الله وهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو السبيل الوحيد الفريد، والصراط المستقيم، ومن أراد محبه الله تعالى ورضوانه فليتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يكون من هديه ونهجه وطريقته، وعلى هذا فلا يجوز لأحد أن يقيد نفسه أو غيره بعبادة من العبادات في أي وقت من الأوقات إلا بما شرعه الله عز وجل، أو شرعه نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ”(البخاري ومسلم).
وأقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على الدرب المستقيم من بعدهم إلى يوم الدين.
عباد الله، سهام الخير كثيرة جدًا ومتنوعة ولله الحمد، يكاد يكون كل العام فيه من الأوقات الفاضلة، فعليكم أيها المسلمون أن تعظموا مواسم الخير وتقدروها قدرها بفعل الطاعات والقربات واجتناب المعاصي والموبقات، فإن تلك المواسم ما جعلت إلا لتكفير سيئاتكم وزيادة حسناتكم ورفعة درجاتكم، ومن فضل الله على عباده أن أكثر لهم من أبواب الخير والأوقات الفاضلة، فالعاقل من اغتنم هذه الأوقات وضرب فيها بسهم:
1-اضرب بسهم في باب قراءة القرآن:
فقراءة القرآن من أفضل الذكر وأكثرها وأعظمها ثوابًا، فعن ابْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ”(الترمذي).
وهذا دليل على عظم قراءة القرآن والله يضاعف لمن يشاء، وكل إنسان وهمتَه في هذا الباب، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]
2-اضرب بسهم في باب الذكر:
إن الله تبارك وتعالى أمرنا بالإكثار من ذكره فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الأحزاب: 41، 42]
قال ابن عباس: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله”(تفسير الطبري).
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ”؟ ، قَالُوا: بَلَى. قَالَ: “ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى”، قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: “مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ”(الترمذي).
3-اضرب بسهم في باب الصدقة:
ففي الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله، وإذا جمع الله الأولين والآخرين ودنت الشمس من الرؤوس وشغل كل واحد من الناس بنفسه، واشتد الحر وكثر العَرق، فهناك صنف من الناس خصوا بالاستظلال في هذا الموقف العصيب، عَن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ قَالَ: حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ”. وقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: فَكَانَ أَبُو الخَيْرِ اليَزَنِيُّ المِصْرِيُّ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ لَا يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً وَلَوْ بَصَلَةً(ابن خزيمة).
4-اضرب بسهم في باب قيام الليل:
فالليل موطن تَنَزلُ الرحمات، ونزول رب الأرض والسماوات، فعلينا باغتنامه بالطاعات، والإكثار من القربات، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ” إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهِ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ “(النسائي).
5-اضرب بسهم في باب الصيام وظمأ الهواجر:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْتُ: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ، قَالَ: “عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ”(النسائي).
ومن عِظم فضل الصيام إضافته لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم فخره، عن أبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ” قَالَ اللَّهُ: “كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”(البخاري ومسلم).
فالصوم من العبادات الجليلة، اختصه الله لنفسه ووعد عليه بالأجر العظيم، وهو وقاية من المعاصي ووقاية من النار، وسبب للبعد عنها يوم القيامة، فحري بالمؤمن المبادرة إلى هذا العمل العظيم وتحمل ما فيه من المشقة اليسيرة التي يعقبها الفرح العظيم عند الفطر وعند لقاء الله عز وجل يوم القيامة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمّر أعداء الدين واحم حوزة الدين يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم انصر إخواننا في غزة، اللهم اشفِ جرحاهم، وتقبّل شهداءهم، وفكَّ أسرَ أسراهم. اللهم عليك باليهود الغاصبين، ومن ناصرهم وأعانهم وظلم عبادك المؤمنين. اللهم اجعل هذه الدماء لعنةً على الظالمين، ونورًا للمستضعفين. اللهم أعلِ راية الإسلام، وأبرِد قلوبنا بنصرٍ مؤزرٍ وعزٍّ ظاهرٍ قريب. وصلّى الله على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.