الأشهر الحرم-فضل وأحكام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الْخطبة الأولى لشهر رجب بتأريخ 3\7\1446هـ-3\1\2025م

حول: الأشهر الحرم: فضلٌ وأحكامٌ

الْخُطْبَةُ الأولى:

الحمد لله رب العالمين الَّذِي خصَّ بمزيد فضل من بين الشهور؛ الأشهر الحُرُم، التي ذكرها سبحانه وتعالى في كتابه, وقال اللهُ تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:36], نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى وَنَشْكُرُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ , ونَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ؛ أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , اللّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَعَلَى كُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أمّا بعد، فَعِبادَ اللهِ أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سِرّاً وَجَهْراً إِذْ هِيَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَكافَة الْمَأْمُوراتِ وَالْمَنْهِيات وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ  َتَّقُونَ﴾ [البقرة:2\21] 

إخْوَةَ الإيمان, هَذَا هُوَ اللِّقَاءُ الأوّل فِي شَهْرِ رجب, سابع الشُهُور القمرية الإسلامية وأحد الأشهر الحرم الأربعة. وَمَوْضُوعُ خُطْبَتِنَا اليوم يَدُورُ حَوْلَ: الأشهر الحرم: فضلٌ وأحكامٌ.

إخْوَةَ الإيمان, فإن الله تعالى الخالق العليم والمدبِّر الحكيم يختار ما يشاء من الأمر والخلق، ويُفَضِّل ما يشاء عمَّا يشاء، من القرآن الكريم ، ومِن ما سواه من الكلام، فقد فضَّل القرآنَ على سائر ما أنزل من الكتب على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وفضَّل من سُوَرِهِ بعضَها على بعض، كما فضَّل سورة الفاتحة على غيرها من السور، وفضَّل آية الكرسي على ما سواها من الآيات البينات، وفضَّل من الذكر والدعاء والاستغفار بعضَهُ على بعض، كما في أحاديثَ كثيرة منها: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ لِلَّهِ»، ومنها: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (البخاري؛ صحيح البخاري، برقم [6306])
وهكذا فَضَّل بعضَ الأشخاص على بعض، حتى الأنبياء فاضَلَ بينهم، كما في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [القرة:253]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء:55]. وفضَّل من الليالي ليلة القدر: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾[القدر:3]، ومن الأيام في الأسبوع يوم الجمعة: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها» (مسلم في صحيحه، برقم:[ 854])، وفي السَّنَة يوم الحج الأكبر: «أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القَرَّ» (الألباني؛ صحيح الجامع، رقم:[1064]. وفضَّل البقاع بعضَها على بعض، وأفضلُها على الإطلاق البلد الأمين: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، والله لولا أني أُخْرِجْتُ منك، ما خرجت» (أحمد؛ المسند، رقم [18715])

وإنّ مما خصَّ الله سبحانه بمزيد فضل من بين الشهور؛ الأشهر الحُرُم، والتي ذكرها الله تعالى في كتابه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة:36].

فالأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان” .
وقوله: ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان، لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الذي بين جمادى وشعبان” تأكيداً وبياناً لصحة ما سارت عليه مُضر.
وأما مضاعفة الثواب والعقاب في هذه الأشهر، فقد صرح بها بعض أهل العلم استناداً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36] .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] .
وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قَتل في الحرم أو قتل ذا محرم، ثم نقل عن قتادة قوله: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء. انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب:30] . انتهى كلام القرطبي [969].

إذن كيف تُعَظِّم الأشهر الحُرم؟
إنه كلما كان العبد لربه أتقى، كان لشعائره أكثر تعظيمًا، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب﴾ [الحج:32].

ومن تعظيمها: الابتعاد عن المظالم كلها، فلا يظلم ربَّه بأن يشرك معه غيره، في عبادة أو قصد أو رجاء أو خوف أو طمع، فإنه الغني عن العالمين. ولا يظلم غيره من المخلوقات إنسها وبهيمها، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الله تعالى قال في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرمًا، فلا تظالموا» (مسلم في صحيحه، رقم 2577.

يعظِّم الأشهر الحرم بأن يجهد فيها بفعل أنزاع المعروف وأبواب الخير، وليتخيَّر أعظمها، فإنها أكثر من الأوقات، ولا يسعه فعلها كلَّها، فليكن من أولوياتها أولاه بالأجر العظيم، ليزداد عظمة بهذه المضاعفة.
اجعلها مدرسة لك تتعود فيها حبس نفسك عمَّا لا يرضها الله تعالى من الأقوال والأفعال، وحتى الخواطر. واصْبر نفسك على فعل الصالحات ومصاحبة الصالحين، الذين يدعون ربه: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:28]

فتعظيم هذه الأشهر يكون بزيادة التقوى والاجتهاد في العمل الصالح، ولئن يهدي الله بك رجلا واحدًا في هذه الأشهر، لهو خير مما في سواها، خير لك مما طلعت عليه الشمس مضاعفًا.

من أحكام الأشهر الحرم: فقد ذكر أهل العلم من أحكام الأشهر الحرم أن الظلم فيها يكون أشد تحريما من غيرها؛ لقوله تعالى:﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾.{التوبة:26} وذكروا كذلك استحباب الصيام فيها؛ لما في الحديث: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم. رواه مسلم واختلف أهل العلم في النهي عن القتال فيها هل نسخ أم لا؟ والجمهور على نسخه، ومن حججهم غزو النبي صلى الله عليه وسلم للطائف في شهر ذي القعدة.

الْخُطْبَةُ الثّانِية:

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين القائل في كتابه العزيز: ) ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74). والصلاة والسّلام على سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه ومن تَبِعَهُمْ بإحسان إلى يوم الدّين.

أمّا بعد,

فعبادَ الله الْكِرَام, يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي مجازره في قطاع غزة مستهدفاً المدنيين من النساء والأطفال, مما أسفر عن عشرات الشهداء والمصابين. والحمد لله رب العالمين, مع كل هذه المجازر لا يزال الله تعالى في عون إخواننا كتائب القسام وغيرهم من حركات المقاومة الإسلامية في قطاع غزة على ميادين الحرب وهنا يتأكّد وجوب الجهاد العيني على الأمّة الإسلامية في أنحاء العالم, إنقاذاً للمسجد الأقصى ولمقدسات الأمّة في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين, كما وصفها القرآن الكريم.

الدُّعَاءُ:

اللهم أبْطِلْ مكر أعداء الإسلام، وأبطل اللهم مُخطَّطاتِهم التي يُخَطِّطونها، اللهم إنَّا نَدْرَأُ بك في نُحُورِهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم إنا نسألك أن تؤلف بين قلوب المسلمين على الحق،  اللهم انصر الشعب الفلسطيني،  وفَرِّجْ الحِصارَ عنهم، اللهم ارفع الكَرْبَ، واكْشِف الضُّرَّ، اللهم اشف مرضاهم ومرضى المسلمين، اللهم فُكَّ أسْرى أهل فلسطين وأسرى المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح اللهم ولاة أمورنا، ووفقهم لما تحب وترضى، اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين، يا أرحم الراحمين ويا رب العامين. وصَلّى اللهُ على سيِّدنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.