بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثالثة لشهر جمادى الأولى بتأريخ 16\5\1447ه الموافق ب 07\11\2025م)
حول: التعاون على البر والتقوى: مجالاته وأساليبه.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه؛ ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين.
أمَّا بعد: فيا أيُّها النَّاس، اتَّقوا اللهَ -تعالى- حَقَّ التقوى. واعلموا أن التعاون بين الناس أمر ضروري لا يمكن الاستغناء عنه، وهو فطرة وجِبِلَّة فطر الله عليها الخلق، صغارهم وكبارهم، ذكورهم وإناثهم، أغنياءهم وفقراءهم، فلا يمكن لأحد الاستغناء عن الآخر… وقد جاءت النصوص في كتاب الله وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- تحث على التعاون على الخير وأنواع البر، قال -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2]. فيأمر الله عباده بالتعاون على البر وعلى أنواع الخيرات والأعمال الصالحة، وينهاهم عن المنكرات بالتعاون على المآثم والمحارم وانتهاكها. ويقول الله -جل وعلا-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة:71].
فهذه الولاية بين المؤمنين تقتضي التناصر والتعاون على كل خير وعمل صالح.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا” وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ). قال ابن بطال -رحمه الله-: كل تعاون بين المسلمين فيما يصلح دينهم ودنياهم أمر مستحب مرغّب فيه؛ لدلالة هذا الحديث عليه. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كمَثَل الْجَسَدِ الواحد؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالْحُمَّى والسَّهَرِ).
عباد الله، التعاون بين المسلمين سمة من سمات المجتمع المسلم، والمسلمون مضطرون إلى التعاون بينهم، فكل فرد مسؤول عن التعاون على قدر مسؤوليته ومكانته، فالعالِم بعلمه، والغني بماله، وذو الإعلام بقلمه وكتابته، والشجاع بشجاعته، والخبير بخبرته، وذو الفكر برأيه وفكره الصائب. والتعاون بين المسلمين له صور شتى وأمور متعددة:
-فمن التعاون على البر والتقوى: التعاون على نصرة هذا الدين، ودعوة الناس إليه، وتحبيبهم إلى الإسلام؛ فإنَّ الدين أمانة في أعناق الأمة يجب أن ينهضوا بمسؤوليتهم في الدعوة إليه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، وقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) [الصف:14].
-أيّها المسلمون: من التعاون على البر والتقوى التعاونُ في إعلان شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ التعاون على هذه الشعيرة العظيمة من أخلاق الأمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ) [آل عمران:104]، والله -جل وعلا- قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق هذه الأمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ) [آل عمران:110]. والمؤمن بقدر إمكانه لا يرضى بالمنكرات ولا يقرها، يغيرها بيده إن كان ذا سلطة وقوة، أو بلسانه ببيان الحق والتحذير من الباطل، أو بقلبه؛ ليعلم الله بغضه وكراهيته لهذه المنكرات. قال -صلى الله عليه وسلم-: (كَلَّا واللهِ! لتَأْمُرُنَّ بِالمعروفِ ولَتَنْهَوُنَّ عنِ المُنكَرِ، ولَتَأْخُذُنَّ على يَدَيِ الظالِمِ ولَتَأْطُرنَّهُ على الحقِّ أطَرًا، أو لَيَضَرِبَنَّ بِقُلوبِ بعضِكمْ على بَعضٍ، ثُم يَلعنُكُم كَما لَعَنَهُمْ).
-عباد الله: من أنواع التعاون على البر: التعاون في قضاء حاجات المسلمين، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ)، قال: يا رسول: أرأيت إن لم أجد؟ قال: (تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ) الأخرق: الذي لا يحسن العمل\غير حاذق.
-ومن التعاون تفريج كرب المكروبين، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فرج اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ). ومنه الصدقة على المسكين فيما فضل من الخير، قال أبو سعيد -رضي الله عنه-: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، فجاء أعرابي على راحلته وجعل ينظر يمينه وشماله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَجدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ عنده، وَمَنْ كَانَ عنده فَضْلُ زَادٍ فَلْيَجدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ عنده)، فذكر أشياء حتى ظننا أنه لا حق لأحدنا في فضل.
-ومن التعاون على البر والتقوى: نصر المظلوم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا”، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا؛ فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قال: “تردعه عنَ الظُّلْمِ، فذَلِكَ نَصْرُك إياه). فأنت مع أخيك المسلم إن رأيته ظالما ردعته عن الظلم، وحذرته من عقوباته ونتائجه السيئة، وإن رأيته مظلوما وقفت تعينه على رفع مظلمته على قدر استطاعتك بالطرق الشرعية.
-ومن أنواع التعاون: التعاون على الإصلاح بين الناس، وتقريب وجهات النظر، وحل المشاكل بالطرق السلمية، يقول الله -جل وعلا-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114]، ويقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال:1]. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟”، قَالُوا بَلَى. قَالَ: “إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فإن فَسَاد ذَاتِ الْبَيْنِ هِىَ الْحَالِقَةُ، تَحْلِقُ الدِّينَ، ولاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ).
-ومن أنواع التعاون: تعاون الزوجين فيما بينهما في إدارة المنزل والإشراف على الأسرة، فإنَّ الله أوجب على الرجل حقا لامرأته، وأوجب على المرأة حقاً لزوجها، قال -تعالى-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:228]. فتعاون الزوجين في شؤون حياتهما من أسباب التآلف والمحبة، تسأل عائشة أم المؤمنين: ما كان عمل النبي في بيته؟ قالت: كان في حال أهله، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة.
-ومن أنواع التعاون: تعاون الأبناء والأسرة الواحدة فيما بينهم على الخير ودفع السوء، والقضاء على أسباب الفرقة والاختلاف، تعاون الرحم فيما بينهم في تأكيد صلة الرحم والبعد عن قطيعتها، تعاون القبيلة والعشيرة في رفع الظلم والعدوان بعيدا على العصبية الجاهلية المقيتة التي لا خير فيها؛ بل ينطلق من منطلق الإيمان والعمل الصالح.
-ومن أنواع التعاون: التعاون مع ولاة الأمر، تعاون الرعية مع ولي أمرها في تنفيذ ما يقرره من أمور يراد بها إصلاح الأمة والسير بها على الخير والصلاح.
-ومن التعاون أن نسعى إلى تأليف القلوب، وجمع الكلمة، واتحاد الأمة، والبعد عن الفوضى والفرقة والاختلاف. والراعي أيضا يكون تعاونه مع رعيته برفع معاناتهم وسد خلتهم، والسعي في راحتهم ما وجد ذلك سبيلا.
-ومن أنواع التعاون: تعاون الشعوب الإسلامية فيما بينها، فيما يحقق أمنها، واقتصادها، واجتماع كلمتها، وبعدها عن الفوضى وتحكم الآخرين في مصيرها ومآلها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني إيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعد فأيها المسلمون، لقد سمعنا في الأيام الماضية تصريحاتٍ خارجية تتعلّق ببلادنا، تُصوِّر ما يجري فيها كأنه حرب دينية، وتلوّح بتهديداتٍ وتدخلات. والحقيقة أن العذر المطروح من رئيس أمريكا الحالي (ترامب) غير حقيقي، فليست القضية عندهم دفاعًا عن فئة ولا شفقة على أحد، وإنما الطمع في خيرات البلاد وثرواتها، والعدو دائمًا يبحث عن منفذ، فإذا وجد الضعف تجرّأ.
عباد الله: إن مما يُحمد في مثل هذه التصريحات – وإن كانت مزعجة – أنها تُظهِر للعالم أن أمننا الداخلي مُصابٌ بخللٍ عميق، وأن بلادنا تعاني من الإرهاب، والقتل، والخطف، والفساد، والتقصير في المسؤوليات. فقد أُوذِي أهل هذه البلاد جميعاً: المسلمون، والمسيحيون، وسائر المواطنين، ولا يميز الرصاص بين دينٍ ودين. وإن الواجب على الدولة وأهل الشأن أن يعيدوا بناء أمن البلاد، ويُصلحوا الأجهزة، ويقوُّوا الاستخبارات، ويواجهوا الجريمة والفساد دون تهاون.
وأما السيّئ في تلك الادعاءات فهو تحويل قضيةٍ معقدةٍ إلى صراعٍ ديني. والله يعلم أن ما يقع في بلادنا ليس حرباً بين مسلمٍ ونصرانيّ، وإنما هي مشكلات متشابكة: ضعف حكم، وجريمة منظمة، وتنافس على الموارد، وانتشار للسلاح، وتقصير في التربية والوعي والعلم والدين. فالحذر الحذر من إشعال الفتن، فإن الفتنة إذا اشتعلت لم تُبقِ ولم تذر.
وأما الأشد قبحاً فهو أن بعض أبناء هذا الوطن فرحوا بالتهديد الأجنبي، وتبنوا خطاب الإضرار ببلادهم، وظنوا أن القنابل إذا نزلت ستختار الناس على أساس الدين أو المنطقة أو الحزب! كلا والله، القنابل لا تعرف مسجداً ولا كنيسة، ولا تعرف مسلماً ولا نصرانياً، ولا تفرق بين بريءٍ ومذنب.
يا عباد الله، إن حماية الوطن مسؤولية الجميع، والدين يأمر بها، قال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾
وقال ﷺ: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً». فليقم أهل الشمال بواجبهم في مواجهة التطرف والفساد والسكوت عن الإجرام، وليقم أهل الجنوب بواجبهم في ضبط الخطاب وعدم إثارة الكراهية والتهوين من الأخوة الوطنية،
وليقُم العلماء من المسلمين والمسيحيين بدورهم في تهدئة النفوس وبناء الثقة، فإن الوطن إذا ضاع لم تنفعنا خطب ولا أناشيد ولا صراخ.
وفي هذا المعنى قال الأستاذ الدكتور عبد الرزاق بن عبد المجيد ألارو حفظه الله: (الحاجة إلى نيجيريا القوية والمستقرة أمر بالغ الأهمية، فليس لنا وطن غير هذا، فوجب أن نبقى يقظين موحّدين، داعمين لكل جهد صادق يحقق الأمن والسلام).
أيها المسلمون، نحن لا نخشى من الخارج إذا صلُح الداخل، ولا يُهزم وطنٌ إذا اتحد أهله، ولا تُخترق أمةٌ إذا أمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها.
اللهم أصلح أحوال بلدنا، واحفظ دماء أهلنا، واجمع كلمتنا على الحق، وادفع عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم من أراد ببلادنا سوءاً فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، يا قوي يا عزيز.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.