بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الأولى لشهر الله المحرَّم بتأريخ 6/1/1446هــ-12/7/2024م
الموضوع: التّوبَة إلى الله وفضل صِيام عاشوراء
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, غَافِرِ الذّنْبِ, وَقَابِلِ التَّوْبِ, شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ: الْقَائِلِ في مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم:8] , وقال سبحانه:﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]. نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَنَشْكُرُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْديه , وَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئاتِ أعْمَالِنَا ؛ إنَّهُ مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَكُلِّ مَنْ نَهَجَ مَنْهَجَهُ وَاقْتَفَى آثَارَهُ وَسَلَكَ مَسْلَكَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمّا بعد,
فيَا عبادَ الله أوصيكُم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ سِرّاً وَجَهْراً , إِذْ هِيَ الْغَايةُ الْمَنْشُودَة مِنْ جَمِيعِ الطَّاعاتِ وَالْعِبَادَات وَاجتِنَاب جميع المنهيات, طِبْقاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:2/21].
إخوةَ الإيمان, هذا هو اللِّقاءُ الْأوّلِ في الْعامِ الهجري الجديد, وفي شهرِ الله المحرّم. ونحن في مسيس الحاجة إلى العودة إلى الله والفرار إليه بتوبة خالصة لوجه سبحانه وتعالى فنجدّد عهودنا مَعَ ربّنا عَزَّ وجلَّ من جديدٍ فِي عامٍ جديدٍ وشهرٍ جديدٍ, فنركّز موضوع خطبتنا اليوم على التوبة إلى الله وفضل صيام عاشوراء.
أيها المسلمون الكرام, إنَّ جميع الكفار من جن وإنس ونصارى ويهود وشيوعيين وغيرهم من أنواع الكفرة عليهم أن يدخلوا في دين الله، وأن يلتزموا بدين الله الإسلام، وأن يتوبوا مما هم عليه من الكفر والضلال قبل أن يموتوا.
وعلى كل مسلم أن يتوب إلى الله من سيئاته وذنوبه، قال الله سبحانه: وقال سبحانه: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال:38] فعلى الجميع أن يتوبوا إلى الله، والله سبحانه هو الجواد الكريم يقبل التوبة من عباده، كما قال سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى:25].
والمذنب عليه أن يرجع إلى الله، ويندم على ذنوبه الماضية، ويعزم أن لا يعود فيها، وبذلك يغفر الله له.
وحقيقة التوبة تشمل ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الندم على الماضي، والحزن على ما مضى من سيئاته: من زنا، أو شرب خمر، أو عقوق، أو ربا، أو أكل مال اليتيم، أو غير هذا من المعاصي، عليه أن يندم على ذلك ندمًا عظيمًا، ويحزن على ما مضى منه.
والأمر الثّانِي: عليه أن يقلع من هذه الذنوب وعليه أن يتركها ويحذرها.
وعليه أمر ثالث: وهو العزم الصادق أن لا يعود.
وهناك شرط رابع عام لجميع الأعمال، وهو النية أن تكون لله وحده، أن يتوب لله وحده؛ لأن الله قال: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ [التحريم:8] يقصد وجهه سبحانه رغبة فيما عنده، وحذرًا من عقابه، فهو يندم على ما مضى، ويعزم أن لا يعود، ويقلع منها خوفًا من الله، وتعظيمًا له، وإخلاصًا له ، وهكذا بقية العبادات كلها لا بد فيها أن تكون لله من صلاة وصوم وصدقة، وغير ذلك.
ومن تمام التوبة، ومن أسباب بقائها: أن يلزم الأخيار، ويبتعد عن صحبة الأشرار الذين يجرونه إلى المعاصي، فهذا من أسباب بقاء التوبة.
ومن أسباب استمرارها وكمالها: أن تبتعد عن جلساء السوء الذين كنت تجالسهم حتى تسلم من شرهم، وأن تحرص على صحبة الأخيار حتى تستفيد منهم، ويعينوك على الخير.
ومن أسباب تمامها وكمالها أيضًا: أن تزيل ما عندك من آثارها، إن كان آلات لهو تزيلها، خمر تريقه، دخان تتلفه، وهكذا ما كان عندك من آثارها وبقائها تزيله حتى لا يجرك الشيطان إليه، تريق الخمر ، تتلف الدخان، تكسر آلات اللهو، إلى غير هذا من كل ما يجرك إلى الشر تزيله عنك؛ حتى تتم لك التوبة، وتبقى وتستمر.
فلا تقنط ولا تيئس، يقول الله -جل وعلا-:﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر:53].، يعني: للتائبين، أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين، ونهانا عن القنوط، قال: لا تَقْنَطُوا يعني: لا تيئسوا من روح الله، فالمؤمن لا ييئس ولا يقنط، بل يبادر بالتوبة، يحسن الظن بربه -جل وعلا-، ويقول النبي ﷺ: التائب من الذنب كمن لا ذنب له فإذا تبت من الذنب بالندم، والإقلاع، والعزم أن لا تعود، فإنه يمحى عنك إذا فعلته لله.
ثم إذا فعلت ذنبًا بعد التوبة تؤخذ بالأخير، إذا فعلت ذنبًا بعد التوبة أعدت الذنوب عليك إثم الأخير فقط، أما الأول فقد مضى، ومحي عنك بالتوبة إذا كنت صادقًا، أما إن كانت التوبة باللسان، وأنت مقيم بقلبك على المعصية مصر فهذه التوبة ما تنفع ما تصح، لا بد من عدم الإصرار أن تتوب بقلبك، وأن تدعها بجوارحك وبدنك، تقلع منها، وتندم عليها، وتعزم أن لا تعود فيها هذه التوبة، فإذا نزغ الشيطان وعدت إليها تؤخذ بالذنب الجديد بس الذنب الجديد إلا أن تتوب أنت بعد ذلك إذا تبت كذلك تاب الله عليك وهكذا، كلما عاد المسلم إلى التوبة تاب الله عليه، فلا يقنط ولا ييئس والله يقول: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87].
ومما ينبغي للتائب أن يتبعها بالعمل الصالح، والاستكثار من الخير؛ حتى تستقيم وتنمو وتكمل، وحتى تبدل سيئاته حسنات أيضًا، إذا أتبعها بالعمل الصالح بدلها الله حسنات، قال تعالى لما ذكر الشرك والقتل والزنا، قال بعد ذلك: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان:68-70] هذه نعمة من الله -جل وعلا- أن العبد إذا تاب توبة صادقة، وأتبعها بالعمل الصالح أبدل الله سيئاته حسنات، مع محو الذنب، تمحى الذنوب، ثم تعطى بدل كل سيئة حسنة، بسبب إيمانك الصادق، وعملك الصالح بعد ذلك، وهذا من فضله وجوده وكرمه. وقال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه:20/82].
الخطبة الثّانية:
الْحمد لله ربِّ العالمين الّذي أنعم علينا بفضائل الأعمال في مواسم الخيرات والبركات والطاعات. نحمده سبحانه وتعالى ونشكره ونتوب إليه ونصلّي ونسلّم على خير خلق الله سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أما بعد,
فيا عباد الله, نحن في شهر الله المحرّم أحد أربعة حرم , وأحد ثلاثة أشهر فيها عشرة أيام معظّمة, كالعشر الأواخر من شهر رمضان والعشر الأوائل من شهر ذي الحجّة, ثالثهما العشر الأوائل من شهر الله المحرّم. إنّ السلف الصالح كانوا يعظّمون هذه المواسم المباركة.
فضل وأجر صيام يوم عاشوراء:
صيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ”. رواه مسلم 1162. وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة والله ذو الفضل العظيم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم عاشوراء؛ لما له من المكانة، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ.” رواه البخاري 1867
ومعنى “يتحرى” أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
سبب صوم النبي صلى الله عليه وسلم ليوم عاشوراء:
وأما سبب صوم النبي صلى الله عليه وسلم ليوم عاشوراء وحث الناس على صومه فهو ما رواه البخاري (1865) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
قوله: ( هذا يوم صالح ) في رواية مسلم هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه.
وأخيراً, نختم حديثنا في هذا الأوان بذكر إخواننا المجاهدين والمرابطين والمستضعفين في غزة العزة . اليوم يوم اليوم الجمعة هو اليوم الــــ280 من العدوان على غزة, واصل الاحتلال قصفه مناطق في القطاع, وقال خبراء أمميون إن المجاعة انتشرت في جميع أنحاء قطاع غزة, مضيفين أن موت الأطفال بسبب سوء التغذية والجفاف يؤكّد ذلك. وقال سرايا القدس, يوم الثلثاء,3/محرم/1446هـــ( 9/7/2024): “العدو بالضفة يعجز عن مواجهة مقاتلينا لذا يلجأ لتخريب الممتلكات”. وقال أبو عبيدة, الناطق باسم حركة حماس: “ما زلنا نقاتل في غزة دون دعم خارجي وما زال شعبنا صامدا بلا غذاء ولا دواء”. اللهم انصرهم ولا تنصر عليهم, وسدّد رميهم وثبّت أقدامهم واجعلهم منتصرين ولا ترفع لليهود في غزة راية ولا تحقق لهم غاية.
الدعاء:
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، مَنْ ضَيَّقَ عَلَى عِبَادِكَ، ومَنَعَ مَسَاجِدَكَ أنْ يُصَلَّى فِيهَا القِيَامُ ويُذْكَرَ فِيهَا اسمُكَ فامْلَأْ قُلُوبَهُمْ خَوْفًا، وامْلَأْ نفُوسَهُم فَزَعًا، وضَيِّقْ علَيْهمُ الأَرْضَ بما رَحُبَتْ، وضَيِّقْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُم، وأَذِقْهُم فِي الدُّنْيَا الخِزْيَ والْهَوَانَ، وعَجِّلْ لَهُم الفَشَلَ والخُسْرَانَ، واجْعَلْهُمْ عِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَار. وَابْسُطْ رَحْمَتَكَ علَى الشُّرَفاءِ والحَرَائِرِ المحبُوسِين ظُلْمًا وعَجِّلْ فَرَجَهُم، وأَحْسِنْ خَلَاصَهُم، وَوَسِّعْ رِزْقَهُم، وَزِدْ إِيمَانَهُمْ وَعَظِّمْ يقِينَهُم، واقطَعْ كُلَّ يَدٍ تَمْتَدُّ بالسُّوءِ إلَيْهِمْ، وَرُدَّهُمْ سَالِمِينَ مَنْصُورِين، وصلّ على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين.