بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الرابعة لشهر ربيع الآخر بتأريخ 25 ربيع الآخر 1447ه الموافق ب 17\10\2025م)
حول: الإشراك بالله وخطورته .
الخُطْبَةُ الأُولَى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلاهادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﴿ يَا أيهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَاتِهِ وَلَاتَمُوتُن إلا وَانْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102] ﴿ يَا أيهَا الناسُ اتقُوا رَبكمُ الذِي خَلقَكمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَث مِنْهُمَا رِجَالًا كثِيرًا وَنِسَاءً وَاتقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالارْحَامَ إن اللهَ كاَنَ عَليْكمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا ايهَا الذِينَ آَمَنُوا اتقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لكَمْ اعْمَالكَمْ وَيَغْفِرْ لكَمْ ذُنُوبَكمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 – 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديثِ كلامُ الله تعالى وخير الهدي هَدْيُ مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم وشر الامور محدثاتها، وكل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون: أظلم الظلم، وأقبح القبائح أن يشرك العبد مع الله غيره بعد أن خلقه الله واصطفاه، وسخر له المخلوقات، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، فكان أعظم الذنوب الشرك بالله تعالى بأن يساوى غير الله بالله فيما هو من خصائص الله تعالى فكيف يُساوَى الخالق الرازق الملك المدبر بالمخلوق الذي لا يملك ضرا ولا نفعًا، ولا يملك موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟!
وهذه الحقيقة تظهر للمشركين يوم القيامة فيقولون لمعبوداتهم من دون الله تعالى ﴿ تَاللهِ إنْ كنّا لفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إذْ نُسَوِّيكمْ بِرَبِّ العَالمِينَ ﴾ [الشعراء: 97 – 98].
فالشرك من الكبائر بل هو أكبر الكبائر؛ لذا حرمت على صاحبه المغفرة والجنة ﴿ إن اللهَ لَا يَغْفِرُ انْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن ْيَشَاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116] ﴿ إِنهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرمَ اللهُ عَليْهِ الجَنةَ وَمَأوَاهُ النارُ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72].
ويروي النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى أنه قال: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))؛ أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: ((لا تشرك بالله شيئًا وإن قُطّعت وحُرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدًا. فمن تركها متعمدًا فقد برئت منه الذمة، ولا تشربِ الخمر فإنها مفتاح كل شر))؛ أخرجه ابن ماجه
أيها الإخوة: يَظُن بَعْضُ الناسِ أن التحذير من الشرك والحديث عنه لا يناسب عند قومٍ الظاهر من أحوالهم أنهم موحّدون، وهذا ظن خاطِئٌ؛ لأن القرآن كله والشريعة كلها إنما جاءت لتُقَرِّرَ لُزومَ إفراد الله تعالى بما يستحقّ، وتحذر من سلوك سبيل المشركين وتبين مآلهم. فلو كان نصف حديث الناس أو أكثره عن التحذير من هذا الذنب العظيم – الذي هو أعظم الذنوب – لما كان ذلك مستكثرًا عند مَن يَفْهَمُ شريعةَ الله تعالى فهمًا صحيحًا.
فالقرآن العظيم جاء يحذر المشركين من شركهم؛ ليأخذ بأيديهم إلى التوحيد والهداية والنجاة ﴿ فَفِرّوا إلى اللهِ إني لكَمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إلىهًا آخَرَ إني لكَمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الذاريات: 50 – 51].
ولم يقتصر التحذير من الشرك على الكفار فقط؛ بل حذر الله المؤمنين منه، وأمرهم بالإيمان مع إيمانهم ﴿ يَا أيهَا الذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الذِي نَزّلَ عَلىَ رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الذِي أنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكفْرْ بِاللهِ وَمَلَائِكتِهِ وَكتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَل ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136] ﴿ يَا أيهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ﴾ [الحديد: 28] والعبد المؤمن قد هداه الله تعالى ودلّه طريقه المستقيم ومع ذلك يقرأ في كل ركعة من كل صلاة يصلّيها ﴿ اهْدِنَا الصرَاطَ المسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6].
ولعظيم أمر الشرك لا يكتفي القرآن بتحذير المشركين والمؤمنين منه؛ بل يحذر الله الأنبياء والمرسلين من الوقوع في الشرك وهم معصومون منه ﴿ وَإذْ بَوَّأنَا لِابْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ﴾ [الحج: 26] وبعد أن ذكر الله تعالى جملة من الأنبياء في كتابه قال: ﴿ وَلوْ أشْرَكوُا لحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كاَنُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88] قال العلماء: “فإذا كان ينهى عن الشرك من لا يمكن أن يباشره فكيف بمن عداه”؟!
هذا الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يخبر الله تعالى عنه فيقول ﴿ وَإذْ قَالَ ابْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا البَلدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35] إبراهيم الذي كسر الأصنام بيده، وتبرأ من قومه، فجعله الله تعالى أسوة للموحدين، إبراهيم الذي ألقاه قومه في النار من أجْلِ إزالة الشرك يقول: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ * رَبِّ إنهُن أضْلَلْنَ كثِيرًا مِنَ الناسِ ﴾ [إبراهيم: 35 – 36] قال إبراهيم التيمي رحمه الله تعالى: “ومَنْ يأمن البلاء بعد إبراهيم”؟!
أيها الإخوة المؤمنون: كما حذّر الله الكافرين من الشرك، وحذّر المؤمنين والمرسلين منه؛ فإنه تعالى خاطب إمام الموحّدين وسيدَ المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يحذره من الشرك – وقد عصمه منه – وتحذيره عليه الصلاة والسلام تحذير لأمته ﴿ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إذْ أنْزِلتْ إليْكَ وَادْعُ إلى رَبِّكَ، وَلَا تَكونَنَّ مِنَ المشْرِكِينَ ﴾ [القصص: 87] وقال تعالى له ﴿ لَاتَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾ [الإسراء: 22] وفي آية آخرى ﴿ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنمَ مَلُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 39].
وإذا كان الشرك بهذه الخطورة المتناهية فإنه يجب على العبد أن لا يأمنه على نفسه ولا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف على صحابته الوقوع في الشرك الأصغر، روى أبو سعيد مرفوعًا: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: “بلى يارسول الله“! قال: ((الشرك الخفي؛ يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل“ رواه أحمد ولا يكون العبد حذِرًا منه إلا إذا تعلمه وفهمه؛ حتى لا يقع في شيء يخلُّ بإيمانه وهو لا يعلم، يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنْتُ أسأله عن الشر مخافة أن يُدْرِكني“؛ أخرجه البخاري
ومما يخيف العبد من الشرك أنه شديد الخفاء فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا) حديث صحيح أخرجه أبو يعلى . وإن مما يذهبه ويمحوه ما علَّمَه النبي صلى الله عليه وسلم الصديق بأن يقول كل يوم ثلاث مرات: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلم) حديث حسن
عباد الله : هل يبقى عذر لمن وقع في الشرك بعد هذه التحذيرات الربانية البليغة في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه تنزيل من حكيم حميد ؟ فاتقوا الشرك واحذروه وتعوذوا بالله منه فإنه تعالى خير معاذ. بارك الله لي ولكم …….
الخطبة الثانية
الحمد لله ناصرِ المستضعفين، ومُذلِّ الجبابرة والظالمين، لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون عباد الله، ها هي غزةُ العزّة تصنع من جديد مشهدًا من مشاهد الإيمان الذي لا يُهزم، فبعد عامين من الحرب المدمرة، والحصار الخانق، والمجازر المروعة، يخرج صوت المقاومة عاليًا لا يُكسر ولا يُخضع. لقد أرادوا إخضاعها بالنار والحديد، فخرجت أكثر صلابةً من الفولاذ، وأرادوا إذلالها بالجوع والحصار، فازداد فيها الإيمان واليقين.
يا عباد الله، لقد كانت صفقة التبادل الأخيرة صفحةً جديدة من صفحات النصر، إذ أجبرت المقاومةُ العدوَّ أن يفاوضها وهو مكسورُ الجناح، بعد أن عجز عن تحقيق أهدافه رغم ترسانة السلاح والدعم الدولي.
من كان يظن أن الاحتلال وداعميه سيضطرون إلى صفقة تبادل طالما رفضوها؟ إنه نصرٌ من الله، نصرٌ بالإيمان لا بالسلاح، وبالثبات لا بالعدد، وبالحق لا بالباطل.
أيها الإخوة المؤمنون، إن الأسرى الذين خرجوا من سجون الاحتلال، قد كان حالُهم يُبكي القلوب، ويشهد على وحشية عدوٍّ لا يعرف للإنسانية معنى. حيث كانوا يُعذَّبون في ظلمات الزنازين، تُمنع عنهم الشمس والهواء، يُحرمون من الدواء والطعام، ويُهانون في كرامتهم صباح مساء. ومع ذلك، ما وهنوا وما استكانوا، بل خرجوا من السجون كما دخلوا: أكثر إيمانًا، وأصلبَ عودًا، وأقربَ إلى الله عز وجل. ولا يزال آخرون كثيرون موجودين في السجون ظلما.
يا أهل الإسلام، لقد تهاوت مشاريع الاحتلال واحدًا تلو الآخر — حتى مشروع الريفيرا الأمريكي الذي أراد تحويل غزة إلى مستعمرة تجارية فوق جماجم الأبرياء، إلى قمم السلام الزائفة التي تُقام لتجميل وجه القبح وتغطية جرائم الإبادة. لكن الله أبى إلا أن يُظهر الحق، فكانت النتيجة عكس ما أرادوا: تعاطفٌ عالميٌّ مع غزة، وفضيحةٌ أخلاقيةٌ للأنظمة التي زعمت الدفاع عن السلام وهي شريكةٌ في العدوان
أيها الأحبة في الله، ما نراه اليوم ليس مجرد انتصارٍ سياسي أو عسكري، بل نصرٌ إيمانيٌّ حضاريٌّ، أعاد للأمة وعيها، وأحيا فيها روح العزة والكرامة، وأثبت أن “من كان الله معه فلا غالب له”.
فالله أكبر على كل طاغيةٍ متجبر، والحمد لله الذي يُمهل ولا يُهمل، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون.
اللهم انصر إخواننا في غزة، اللهم اشفِ جرحاهم، وتقبّل شهداءهم، وفكَّ أسرَ أسراهم. اللهم عليك باليهود الغاصبين، ومن ناصرهم وأعانهم وظلم عبادك المؤمنين. اللهم اجعل هذه الدماء لعنةً على الظالمين، ونورًا للمستضعفين. اللهم أعلِ راية الإسلام، وأبرِد قلوبنا بنصرٍ مؤزرٍ وعزٍّ ظاهرٍ قريب. وصلّى الله على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.