قيام الليل مدرسة الصالحين وقرة عين العابدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الثالثة لشهر ذي الحجة: بتاريخ 15/12/1445هـ (21 يونيو 2024م)

الخطبة الأولى

قيام الليل: مدرسة الصالحين وقرة عين العابدين

الحمد لله الذي رغَّبَ عبادَه المؤمنين فى قيام الليل ورتَّب عليه فضائلَ عظيمةً ودَرَجاتٍ رَفيعَةً، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه صلاة وسلاما دائمين على حبِيبِنا وشَفِيعِنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه ومن سار على نَهْجِه وتَمسَّك بِسُنته واقْتَدَي بِهَدْيه واتَّبَعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

أما بعد:

           فاتقوا الله تعالى -أيها المسلمون- والتقوى هي صفة أولياء الله تعالى، الذين يُؤَدُّونَ الْفَرَائِضَ ويَجْتَنِبُونَ الْمَنَاهِي، يقول سبحانه وتعالي: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (سورة يونس: 62-63).

         أيها المستمعون الكرام… إنه قيام الليل، عبادةٌ جليلةٌ، وقُربةٌ عطيمةٌ، وشريعة ربانية، وسنة نبوية، وخصلة حميدة، ومدرسة إيمانية، وخلوة برب العالمين. ومع كل هذه الخصال الحميدة والصفات المجيدة، فإن هذه العبادة التي هي أفضل بعد الفريضة، قل الراغبون فيها، وأصبحت عند كثير من الناس اليوم نَسْيًا مَنْسِيًا لأننا نعيش فى زمن غربة الدين ، وَلِأَجْلِ أنْ نُذَكِّرَ أنْفُسَنا، ونَغْتَنِمَ هَذَا الوقتَ المبارك بالطاعات، لنَحْصُلَ على الأجْرِ الْجَزِيلِ، سَيَرْتكِزُ حَديثُنا اليوم على: ” قيام الليل: مدرسة الصالحين وقرة عين العابدين

        إنَّ قيامَ الليل -أيها المسلمون- من أفضل النوافل، ومن  أعظم الأسباب التي يتقرب بها العبد من ربه عز وجل، وهو دأب الصالحين، وشرف المؤمنين، وعمل الفائزين. ففي الليل يخلو عباد الله المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فَيَشُكُّون إليه أحوالَهم وذنوبَهُم، ويسألونه من فضله. وقد أثنى الله تعالى على من يقوم ليلَهُ بالصلاة، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } ( سورة الزمر: 9)، قال ابن عباس: {آناء الليل} : جوف الليل. وقال الحسن، وقتادة: {آناء الليل} : أوله وأوسطه وآخره. (انظر: تفسير ابن كثير 7/88)، وقال تعالى فى وصْفِ عباد الرحمن: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (سورة الفرقان: 64) قال السعدي: ” يُكْثِرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم مُتَذَلِّلين له”  (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص: 586)، وقوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} سورة الذاريات: 17-18) قال الإمام الطبري: ” كانوا قليلا من الليل هجوعهم، لأن الله تبارك وتعالى وصفهم بذلك مدحا لهم، وأثنى عليهم به، فوصفهم بكثرة العمل، وسهر الليل، ومكابدته فيما يقربهم منه ويرضيه عنهم ” (جامع البيان في تأويل القرآن للطبري 22/412) .

        إخوة الإسلام، لقيام الليل فضائل ُعظيمةٌ نذكر منها: أنه أفضل الصلاة بعد الصلوات المفروضة، وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : (( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ)) (رواه مسلم وأحمد فى المسند) ، وهو -أيضا- المدرسةُ الْمُهَيَّأةُ لِلأُمور العظيمةِ، ولما اصطفى الله سبحانه وتعالى نبيَّه ورسولَه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لِحمْلِ الرِّسالة الْخاتِمَةِ، أمره بقيام الليل، قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } (سورة المزمل: 1-5) فكان قيام الليل وترتيل القرآن هو الإعداد لحمل هذه الرسالة العظيمة الشاقة. وشرفُ المؤمنِ بالدنيا قيامُ الليل، وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ)) (رواه الحاكم فى المستدرك. وانظر أيضا: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 3/253 وصححه الدهبي فى التلخيص)، ولو لم يكن فى قيام الليل إلا أن الذنوب  تغفر فيه والدعاء فيه يسمع وسبب لدخول الجنة لكفى، (( ينْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟)) (رواه البخاري وأحمد)، وعن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (( إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللهَ فِيهَا خَيْرًا، إِلَّا آتَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ)) (رواه مسلم  وأحمد)، وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا “، فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ لِلَّهِ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ)) ( حديث حسن لغيره، رواه أحمد فى المسند والبيهقي فى السنن الصغير والطبراني فى المعجم الكبير)  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ)) (إسناده صحيح رواه ابن حبان فى صحيحه وابن ماجه فى سننه).

          إخوة الإيمان، اعلموا رحمكم الله أن الإخلاص هو روح العمل الصالح وبدونه لا يصح العمل ولا يكون مقبولا، فعليكم بتقوية إخلاصكم لله تعالى بقيام الليل، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: ” وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص، ولهذا كان أسلافنا الصالحون يجتهدون فى قيام الليل، قال الحسن: كان الرجل يكون عنده زواره فيقوم من الليل يصلي لا يعلم به زواره وكانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت وكان الرجل ينام مع امرأته على وسادة فيبكي طول ليلته وهي لا تشعر” (انظر: لطائف المعارف ص:39).

        عباد الله، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحرص على قيام الليل حتى إنه لا يترك النائمين من أهله وأقاربه إلا أيقظهم، وعن علي بن أبي طالب قال: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرقه وفاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة، فقال: ((أَلاَ تُصَلِّيَانِ))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَنْفُسُنَا بِيَدِ الله فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}(سورة الكهف: 54. رواه البخاري والبيهقي فى السنن الكبرى)  قال ابن حجر:قال بن بطال: ” فيه فضيلة صلاة الليل وإيقاظ النائمين من الأهل والقرابة. قال الطبري: لولا ما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- من عِظَمِ فَضلِ الصّلاة في الليل ما كان يُزْعِجُ ابْنتَه وبْنَ عَمِّه في وقت جعله الله لِخَلْقه سَكنًا لكنَّه اخْتَار لَهُما إحْرَازِ تلك الفضيلة على الدعة والسكون امتثالا لقوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة الآية” (فتح البارى 3/11). وعن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (( إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ، كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)) (إسناده صحيح رواه أبو داود وابن حبان فى صحيحه وابن ماجه). قال محمد بن إسماعيل الكحلاني الصنعانى: ” فيه دليل جواز إيقاظ النائم للنافلة وفيه -أيضا- فضيلةٌ عظيمةٌ لِنَافلة الليل ” (انظر: التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِير 1/559).

         أيها المسلمون، إن الوقوف بين يدي الله تعالى فى الليل من أعظم الشرف، ولهذا لا يستحق العاصي ذلك الشرف، وليس أهلا لمناجاة الرب العظيم فى هذه الساعة المباركة، قال سفيان الثوري: حُرِّمْتُ قِيامَ اللَّيْل خمسة أشهُرٍ بِذَنْبٍ واحدٍ، قيل: ما هو؟ قال رأيتُ رجلاً يَبْكِي فقلْتُ هذا مُرائِي ”  (  المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية صلى الله عليه وسلم من صحيح الإمام البخاري للسفيري الشافعي 1/456 ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص:67 ). وقال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا أبا سعيد: إنِّي أَبِيتُ مُعَافًى وأُحِبُّ قيامَ الليل، وَأُعِدُّ طَهُورِي فما بالِي لا أقوم؟!! فقال الحسن: ذنوبُك قيَّدَتْك ” ( فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب لمحمد نصر الدين محمد عويضة 7/99). وقال الفضيل بن عياض:  “إذا لم تَقْدِرْ على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنَّك مَحْرُومٌ كَبَلَتْكَ خَطِيئَتُك ” (لطائف المعارف ص: 46 و نزهة المجالس ومنتخب النفائس 1/120).

         أيها المستمعون الكرام،  يجوز قيام الليل في أول الليل ووسطه وآخره، كل ذلك فِعْلُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أنس بن مالك قال: ((ما كنا نَشاءُ أن نَرى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في الليل مُصَلِّيًا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائمًا إلا رأيناه)) (صحيح، أخرجه البخاري  والنسائي) قال الحافظ ابن حجر: ” أي إنَّ صلاتَه ونومَه كان يَخْتَلِفُ بالليل، ولا يَرْتب وْقتًا مُعَيَّنًا بَلْ بِحَسبِ مَا تَيسَّر له القيامُ …” ( انظر: صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة 1/400). أما أفضل أوقاته: فيُسْتَحبُّ في الثلث الأخير من الليل، ليتعرض  لنفحات الله تعالى العظيمة في تلك الساعات التي لا يستيقظ فيها لعبادة ربه إلا القليلُ من الناس،  فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يَنْزِلُ اللهُ إلى السماء الدنيا كُلَّ ليلةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ الليلِ فيقول: أنا الْمَلِكُ، أنا الملك، من الذي يدعوني فأستجيب له، من الذي يسألني فأُعْطيه، من الذي يستغفرني فأغفر له)) (أخرجه البخاري ومسلم)  وفي لفظ لمسلم ((… حتى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ)). أما عدد ركعات صلاة الليل -عباد الله- فليس لها عدد مخصوص ولا حد معين، فهي تتحقق ولو بركعة الوتر بعد صلاة العشاء، قال القاضي عياض: “ ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يُزَاد عليه ولا يُنْقَصُ مِنْهُ، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وما اختاره لنفسه والله أعلم ” يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يصلي إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة. وقال ابن عبد البر في (التمهيد):” فلا خلاف بين المسلمين أن صلاة الليل ليس فيها حدٌّ مَحْدودٌ وأنَّها نافلةٌ وفِعْلُ خَيْرٍ وعَمَلُ بِرٍّ، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر”  ومما يدل على صحة هذا القول، قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى)) (رواه الإمام الشافعي فى الأم) ويقول عَبْدُ اللهِ بْن عُمَرَ: “صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ رواه مالك فى الموطأ).

         عباد الله، هناك أسباب التي تُعِينُ على قيام الليل، منها: صِدْقُ النِّيةِ والْعَزْمُ على القيام، ومُجَاهَدة النَّفْس فى ذلك. التَّبْكير بالنوم، الوضوء قبل النوم، والمحافظة على أذكار النوم، ترك المعاصى والآثام، التقَلُّل من الأكل والشرب، أن يكون هَمُّ الآخرة هو الغالب على القلب، معرفة فضل قيام الليل، تحقيق محبة الله عز وجل. (انظر: مختصر منهاج القاصدين ص:67 ولطائف المعارف ص 119 وصحيح فقه السنة 1/401-402).

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة،  فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

حول: عيد الأضحى ودرس التضحية

الحمد لله الْمُبْدِئِ الْمُعِيدِ الذِّي مَنَّ عَليْنَا بِعِيدِ الأضحي الْمنْصَرِمِ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله أصحابه وسلَّم تسليما كثيرا.

وبعد: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} (سورة آل عمران: 102).

       إحوةَ الإيمان، جاء عيدُ الأضحى، وقَدِ انْصَرَمَ، وترك لنا دروسا، وأهَمُّ هذه الدروس: دروس التضحية مِنْ أُسْرَةِ نبي الله إبراهيم -عليه السلام-، أسرة مباركة التي قَبِلَتِ التَّضْحية رَغْمَ عِظَمِ المصاب، فالولد قَبِلَ أنْ يُضَحِّيَ بِنَفْسِه، والأب رَضِيَ بالتضحية بولده، والأُمُّ أطاعتْ زوجَها، وتركتْ صَبِيَّها دُون أنْ تَعْتَرِضَ، وَلَوْ بِكَلْمةٍ واحدةٍ. فَلَيْتَ الْأُمَّة تُدْرِكُ أنَّ الإسلامَ يَأْمُرُهَا بالتضحية والفداء بعد أنْ تَكاثَرَ عليْها الأعداءُ، وتكالَبَتْ عليها الأُمَمُ، وسُلِبَتْ مِنْها الْمُقَدَّسَاتَ، وانْتُهِكَتِ الأعْرَاضُ، وسُفِكَتِ الدِّمَاءُ، واضْطُهِدَ العلماءُ المخْلِصون، وحُورِبَ الْمُصْلِحون، وأصْبَحُوا غُرَبَاء فى أوْطَانِهم .

            عباد الله، لِلتَّضحية فى سبيل الله أشكالٌ وصُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فهي: تضحيةٌ بالنفس والمال، تضحيةٌ بالعظيم واليسير، بالقول والفعل، بنشر العلم وتقديم العون والخير، تضحيةٌ بكلمة الحق عند سلطان جائر، وإن زاد أعوانه، وبِنُصرةٍ لِلْمَظْلوم وإن قل أنصاره، وبصَدعٍ بالحق وإن غاب شُهودهُ، إنها الفداء والإيثار والعطاء والجهاد فى سبيل الله، وبذل الجهد والوسع فى التخفيف عن الناس، وتفريج الكرب عنهم، إنها التضحية بالتعب والسهر فى سبيل بث روح الفضيلة فى المجتمع، ومحاربة الفساد، رجاء ثواب الله، وابتغاء رضوانه.

         إخوة الإسلام، إن الأحْدَاثَ التي تَشْهَدُها فلسطين الحبيبةُ والمثالُ الصادقُ الذي يضْربِه رجالٌ صادقون ونساءٌ صادقات وأطفال  أبرياء، لَهُو أرْوَع مِثالٍ عَلى التَّضْحية في أَبْهَى صُوَرِها، وأجْلَي مَعانِيها، أمام آلةٍ عَسْكَريةٍ إجْرامِيةٍ، دعمَتْها قُوَى الأرْضِ، وسَانَدَتْها كُبْرى الدُّول بِلا حَياءٍ. ومِنْ عظيم ما تَضَمَّنَتْهُ قِصةُ الأُضْحِية، أنَّ مع العسر يسرا، وبعد شدة فرَجا.

الدعاء:   

اللهمَّ  إنّا نَسألُك بِاسْمِكَ العَظِيمِ الْأَعْظَم الذِّي  إذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وإذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ وبِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْنَا مِنْهَا وَمَا لَمْ نَعْلَمْ أنْ تَسْتَجِيبَ لَنَا دَعْوَاتِنَا وَتُحَقِّقَ رغَبَاتِنا وَتَقْضِي حَوَائجَنَا وَتُفَرِّجَ كُرُوبَنَا وَتَغْفِرَ لَنَا ذُنُوبَنَا وَتَسْتُرَ عُيُوبَنَا وَتَتُوبَ عَلَيْنا وتُعَافِينَا وَتَعْفُوَ عَنَّا وَتُصْلِحَ أهْلَنا وَذُرِّيّاتَنا وارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ رَحْمَةً تُغْنِينَا بِهَا عَمَّنْ سِوَاكَ اجْعلْنا من عَبِيدِك الْمُخْلِصِينَ، ومن الْمُتَّقِين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وخطايانا، وإسرافنا على أنفسنا، وأنت أعلم بذنوبنا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم ارزقنا حسن الخاتمة، واجعنا من أهل الجنة، ونَجِّنا من النار. برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الكُفر والكافرين، اللهم إنَّا نَدْرَأُ بك فى نُحُورِهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم ألف بين قلوب المسلمين على الحق،  اللهم اجْعَلْ  لِلشَّعْبِ الْفَلَسْطِينَ النُّصْرَةَ والْعِزَّةَ والْغَلَبَةَ والقُوّة والْهَيْبَة والرُّعْبَ فى قلوب أعدائهم وأعدائنا. اللهمَّ اشْفِ جَرْحَاهُمْ واطْلِقْ أَسْرَاهُمْ. وفَرِّجْ الحِصارَ عنهم، اللهم ارفع  كَرْبَهُمْ، واكْشِفْ ضُّرَّهم، اللهم انصر مُجَاهِدِيهِمْ بِقُوَّتِك َوَبِجُنُودِك يا ربَّ العالمين. اللهم آمنا فى أوطاننا، وأصلح اللهم ولاة أمورنا، ووفقهم لما تحب وترضى، اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين، يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين.

Scroll to Top