الإسلام إيمان وعلم وعمل خطبة

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الثالثة لشهر ربيع الأول بتأريخ 17 /3/ 1446ه (20/9/ 2024م)

الموضوع: الإسلام إيمان وعلم وعمل

_____________________________________________________

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أَرْسَل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدين كلِّه وكَفَى بالله شهيدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أمَّا بعدُ: فيا أيها الإخوة المؤمنون، فإن أفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب ونال به العبد الرفعة فى الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان والعمل؛ فكل هذا من صميم الإسلام، كل واحد ملازم للآخر. فلا علم ينفع بلا إيمان، ولا إيمان يصح بغير علم. والعلم نفعه بالعمل به والعمل بغير علم كان إلى الإفساد أقرب. وهكذا الإيمان كماله بالعمل بل هو من صميمه. ولهذا فإن موضوع خطبتنا اليوم: الإسلام إيمان وعلم وعمل.
عباد الله، إن قرن في كتابه بين العلم والإيمان في مواضع:

قوله – تعالى -: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}  [الروم: 56].

قال الفقيه الإمام القاضي – رحمه الله -: (ذكر العلم يتضمن الإيمان ولا يصف الله بعلم من لم يعلم كل ما يوجب الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعد ذلك تنبيهاً عليه وتشريفاً لأمره؛ فنبه على مكان الإيمان وخصه بالذكر تشريفاً [المحرر الوجيز]. وقال ابن عاشور – رحمه الله -: (الذين أوتوا العلم هم المؤمنون؛ فإظهار لفظ {الَّذِينَ آمَنُوا} في مقام ضمير {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} لقصد مدحهم بوصف الإيمان. [التحرير والتنوير])

ومن الآيات التي قُرِن فيها بين العلم والإيمان قوله – تعالى -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ١١]. عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات)[الدر المنثور].

قال الرازي – رحمه الله -: (اعلم أنه – تعالى – ذكر الدرجات لأربعة أصناف:  

أولها: للمؤمنين من أهل بدر قال: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ}. [الأنفال: 2-٤]

والثانية: للمجاهدين: قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْـمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} [النساء: 95].

والثالثة: للصالحين: قال: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِـحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 75].

الرابعة: للعلماء: قال: {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. [المجادلة: ١١]

والله فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات، وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات، وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ثم فضَّل العلماء على جميع الأصناف بدرجات، فوجب أن يكون العلماء أفضل الناس)[تفسير الرازي].

قال سيد قطب: الآية تعلمنا أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات [في ظلال القرآن].  

إن رفع الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان:

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْله – تَعَالَى -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١] خَصَّ – سُبْحَانَهُ – رَفْعَهُ بِالْأَقْدَارِ وَالدَّرَجَاتِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ؛ وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَشْهَدَ بِهِمْ فِي قَوْله – تَعَالَى -: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْـمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].  وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الْحَقُّ بِقَوْلِهِ – تَعَالَى -: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْـحَقَّ} [سبأ: ٦] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الْحُجَّةِ وَالْقِيَامَ بِهَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ يَرْفَعُهَا كَمَا قَالَ – تَعَالَى -: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: 83]. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِالْعِلْمِ. فَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَالْأَقْدَارِ عَلَى قَدْرِ مُعَامَلَةِ الْقُلُوبِ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ} [مجموع الفتاوى16\49].

وقال ابن القيم في فضل أولي العلم والإيمان: {وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه والمؤهلون للمراتب العالية} [الفوائد 107].

فالمراتب العالية لأهل العلم والإيمان في الدنيا والآخرة. فالأمة التي يعلوا فيها أهل العلم والإيمان هي الأمة المؤهلة

لقيادة البشرية إلى حياة طيبة، تعلو فيها قيمة الإنسان، ويُعْرَف لكل عالِم فيها قدره ودرجته. والأمة التي لا تعطي لأهل العلم في جميع المجالات التقدير والدرجات أمة مؤهلة للتبعية لا للقيادة، وللذلة لا للعزة، ولحياة الضنك وضيق العيش لا للحياة الطيبة.

أيها المسلمون إن الإيمان والعلم في الإسلام ليسا مجرد إدراك ذهني أو تصديق قلبي غير متبوع بأثر عملي في الحياة.. كلا، إنه اعتقاد وعمل وإخلاص.

وقد ذكر القرآن الكريم الإيمان مقروناً بالعمل في أكثر من سبعين آية من آياته، ولم يكتف بمجرد العمل ولكنه يطلب عمل “الصالحات” وهي كلمة جامعة من جوامع القرآن تشمل كل ما تصلح به الدنيا والدين، وما يصلح به الفرد والمجتمع، وما تصلح به الحياة الروحية والمادية معاً.

وإن المؤمن يندفع إلى العمل بحافز من نفسه، وباعث من ذاته، بإيحاء ينبعث من داخله لا سوطاً يسوقه من الخارج. ذلك الباعث الذاتي هو الإيمان بالله وبرسالة السماء، وبمهمته في عمارة الأرض والسيادة على الكون.

وإن المؤمن يوقن أن السعادة في الآخرة والنجاح في الأولى موقوف على العمل. الجنة في الآخرة ليست جزاء لأهل البطالة والكسل والفراغ، بل لأهل الجد والعمل والإتقان: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72)، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:17).

وقد هدمت عقيدة الإسلام ذلك الطمع الأشعبي، والأماني الفارغة التي جعلت صنفاً من الناس يحسبون الجنة حكراً لهم، أو عقاراً سيتوارثونه عن الآباء والأجداد، يستحقونها بمجرد الانتساب إلى دين معين أو الدخول تحت عنوان خاص.

أبطل الإسلام هذه الدعاوى العريضة، ورد الأمر كله إلى صدق الإيمان وحسن العمل: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 111، 112) وبهذا رسم الطريق إلى الجنة: إسلام الوجه إلى الله وإحسان العمل.

ولم يكن هذا موقفه من اليهود والنصارى فحسب، في قد وقف نفس الموقف من الأشعبيين، من المسلمين أنفسهم، أولئك الحمقى الذين يتبعون أنفسهم هواها ويتمنون على الله الأماني، ويظنون أن النطق بكلمة الإسلام، أو التسمي بأسماء المسلمين يكفي ليفتح لهم أبواب الجنة، فيدخلوها بسلام آمنين، ولكن القرآن بين لهم بوضوح أن قانون الله في الجزاء عام لعباده قاطبة، لا محاباة عنده، ولا فرق بين طائفة وطائفة.

روى المفسرون للقرآن أن مجلساً ضم جماعة من اليهود والنصارى والمسلمين فزعمت كل طائفة منهم أنهم أولى الناس بدخول الجنة، اليهود قالوا: نحن أتباع موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه. والنصارى، قالوا: نحن أتباع عيسى روح الله وكلمته.

والمسلمون قالوا: نحن أتباع محمد خاتم النبيين وخير أمة أخرجت للناس. ولم يدع القرآن هؤلاء وهؤلاء، لدعاواهم وتنازعهم. فنزلت آياته حاكمة فاصلة، قاضية عادلة، تخاطب المسلمين في صراحة وجلاء: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 123، 124).

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

أحمد الله تعالى على نعمائه، وأشكره على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وحققوا إيمانكم بربكم، واعلموا أن كل عقيدة وجدت في قلب صاحبها -وإن كانت باطلة – فلا بد من أن ينفعل لها، ويتأثر بها، ويعمل من أجلها..

قال تعالى:  }الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم{سورة محمد\1

وقال: }إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام،{ سورة الحج\17

وقال: } إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.{ سورة الأنفال\36
فعقيدتهم الكفرية جعلتهم يتحركون ويعملون في الصد عن سبيل الله وعن بيته وعن دينه، وينفقون أمولاهم في سبيل هذا الأمر، وهكذا من كان يؤمن بالله ينبغي أن يعمل لنصرة عقيدته:

 } فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل… {سورة الكهف\110

}يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم {سورة محمد\7

عباد الله، إن الله تعالى جعل مسئولية المسلمين إخراج البشرية كلها من الظلمات إلى النور بمقتضى الكتاب المنزل فقال سبحانه: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) سورة إبراهيم\1

فكيف نخرجهم من ظلام الكفر إلى نور الهداية ونحن قعود بلا عمل؟.
وهو سبحانه أنزل القرآن لإقامة العدالة في الأرض ورفع الظلم عنها:

(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) سورة الحديد\25

 وإقامة العدل لابد فيها من منع الظلم والأخذ على يد الظالم لدفعه عن ظلمه، وهذا لابد فيه من أمر ونهي ومجاهدة وربما جهاد أيضا. والله سبحانه جعل صلاح الأرض بالمدافعة بين أهل الحق وأهل الباطل

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) سورة البقرة\251

ولو توقفت هذه المدافعة لفسدت الأرض ولهدمت الصوامع والبيع والصلوات والمساجد التي يذكر فيها اسم الله، وهذه المدافعة لا يمكن أن تكون مع جلوس أهل الحق وعدم انبعاثهم لنصرة الحق ودفع الباطل وأهله.

لذلك فإن ما يقوم به رجال المقاومة في فلسطين والعراق واليمن ولبنان وغيرها في النيل من العدو الصهيوني من واجب الإيمان والعلم. فلا خير فيمن خذلهم من القاعدين المثبطين. نسأل الله تعالى أن ينصرهم نصرا عزيزا ويرزقهم فتحا مبينا إنه على ذلك قدير.

الدّعاء: اللهم أمنا في أوطاننا وول علينا خيارنا وأيد بالحق أولياء أمورنا, وحقق الأمن والاستقرار في بلادنا, اللهم إنّا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم, اللهم أعز الإسلام والْمسلمين وأصلح أحوال الْمسلمين فى كل مكان.  اللهم أمنّا فى الأوطان والدور وادفع عنا الفتن والشرور وأصلح لنا ولاة الأمور, واستجب دعاءنا إنك أنت سَميع الدعاء. وصلى الله على النبي وعلى آله وصحبه وسلّم.

Scroll to Top