أهمية الإخلاص فى العبادة

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الثانية لشهر جمادى الآخرة: بتاريخ 11/6/1446هـ (13 ديسمبر 2024م)

الخطبة الأولى

أهمية الإخلاص فى العبادة وضرورته للعبد

الحمد لله العالِم بالبواطن والظواهر، والخفيات والجليات، الْمُطّلِعِ على مكنون الصدور وخبايا الأمور، أمَرَ بالإخلاص واصطفى من عباده الْمُخْلِصِين، إنه يعلم الجهر وما يَخْفَى.  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه أهل السرائر  الصافيات، وعلى التابعين لهم بإحسان. 

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى، -أيها المسلمون- واعلموا أنَّ مدار التقوى على فعل الخير واجتناب الشر والفساد، وأخلصوا أعمالكم للمولى عز وجل، فإنه سبحانه وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك، وهُوَ{ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ } (سورة غافر 19).

إخوة الإيمان:  إنَّ الْإِخْلَاصَ أَنْ يَفْعَلَ الْمُكَلَّفُ الطَّاعَةَ خَالِصًا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يُرِيدُ بِهَا تَعْظِيمًا مِنْ النَّاسِ وَلَا تَوْقِيرًا، وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ دِينِيٍّ، وَلَا دَفْعَ ضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ، (قاله العز بن عبد السلام. انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 42/89) وقال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: ” الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة ” (إحياء علوم الدين 4/321). وقال القاسم القُشيْرى مُعَرِّفاً الإخْلاصَ : ” الإِخلاصُ إفرادُ الحق سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد، وهو أن يُريد بطاعته التقرّب إلى الله تعالى دون أيِّ شيء آخر؛ من تَصنُّعٍ لمخلوق، أو اكتساب مَحْمَدَةٍ عند الناس، أو محبّة مدحٍ من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرّب إلى الله تعالى ” ( انظر: الأذكار للنووي ص:34)

أيها المسلمون: اعلموا رحمكم الله تعالى أنَّ عبادة الله سبحانه وتعالى لا تقوم ولا تستقيم إلا بالإخلاص له، فالإخلاص هو حقيقة الدين، ولب العبادة،{ فَٱعبُدِ ٱللَّهَ مُخلِصًا لَّهُ ٱلدِّينَ *  أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلخَالِصُ} (سورة الزمر: 2-3) ، وهو شرط قبول العمل، فهو بمنزلة الأساس للبنيان، وبمنزلة الروح للجسد، فلا عبادة ولا عبودية لمن لا إخلاص له، وعن أبي أُمامةَ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا يَلْتَمِسُ الْخَيْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((لَا شَيْءَ لَهُ)) – يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ – ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا خَلَصَ لَهُ، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)) (رواه  أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. وانظر: صحيح والترغيب الترهيب  للمنذري 1/23).  فإنَّ تحقيق الإخلاص لله تعالى فى كل العبادات،– أيها المسلمون- هو أعظم الأصول فى دين الإسلام، وعمل المؤمن يدور على الابتعاد عن كل ما يضاد الإخلاص وينافيه، كالرياء والسمعة والعجب وحب المدح والسرور به وحب النفس وحب الشهرة، ونحو ذلك، وكان – صلى الله عليه وسلم- يقول فى دبر الصلاة حين يُسلِّم: (( لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (رواه مسلم والنسائي والبيهقي والطبراني). ووقد أمرنا الله تعالى بالقسط وبأن نقيم وجوهنا عند كل مسجد وأن ندعوه مخلصين له الدين ويقول:  {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (سورة الأعراف 29) وقوله تعالى:{ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ } (سورة غافر  14). كما أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول للناس: { قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ } (سورة الرعد 36). وقوله: { وَما أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (سورة البينة 5). وأوْصَى النبي -عليه الصلاة والسلام- أصحابه بالإخلاص، وفى الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال حين بعث إلى اليمن: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: (( أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ))  (المستدرك علي الصحيحين للحاكم ،كتاب الرقاق 3/341) . وأثنى الرسول عليه الصلاة والسلام عل المخلصين فقال: ((طُوبَى لِلْمُخْلِصِينَ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الدُّجَى، تَتَجَلَّى عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءَ)) ( الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا ص 31).

إخوة الإيمان: للإخلاص ثمرات كثيرة يجنيها المؤمن المخلص لربه عز وجل فى عباداته منها:

_ قبول الأعمال عند الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا خَلَصَ لَهُ، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)) (رواه  أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ).

_ التخلص من كيد الشيطان وتسلطه، قال الله تعالى: { قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } (سورة الحجر 39-40). قال القرطبي:  ” قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيِ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ وَأَخْلَصْتَهُمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لَكَ الْعِبَادَةَ مِنْ فَسَادٍ أَوْ رِيَاءٍ”

(تفسير القرطبي 10/28).

_ الإخلاص سبب لصرف السوء والفحشاء، قال الله تعالى فى قصة يوسف عليه السلام: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (سورة يوسف 24). وفى الآية قراءتان: الأولى { إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} بكسر اللام. أي: أن يوسف –عليه السلام- من عباد الله الذين أخلصوا توحيد الله وعبادته فلم يشرك بالله شيئا، فلما أخلص لربه؛ صرف عنه دواعي السوء والفحشاء. الثانية:{ إِنَّهُۥ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام، فهو من عباد الله المخلَصين الذين أخلصهم الله لنفسه  واختارهم لنبوته ورسالته. (انظر: تفسير القرطبي 9/170).

_ مضاعفة العمل وزيادته، قال ابن كثير فى قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ} (سورة البقرة 261)، أَيْ: بِحَسَبِ إِخْلَاصِهِ فِي عَمَلِهِ ” ( تفسير ابن كثير 1/693).  قال ابن المبارك: ” رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَبِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ ” (جامع العلوم والحكم 1/71)

_ يُنْصَر العبدُ بإخلاصه: لقوله عليه الصلاة وغالسلام: (( إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضُعَفَائِهَا بِدَعَوَاتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ )) ( رواه النسائي).

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله المحي المميت، المبديء المعيد، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،. صلى  الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليما كثيرا.

يقول الله تعالى {وَاتَّقُوا يوْماً ترْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (سورة البقرة آية: 281).

عباد الله: إذا حضر الموت لا يستطيع أحد أن يغير وقته أو تأجيله ليتدارك ما فاته ويعمل صالحا، فصلاح الآخرة ما هو إلا الغرس الصالح فى الدنيا، فكم من الناس كانوا عن ذكر الله  وعن عبادته معرضين، وفى اللهو واللعب منغمسين، وفى الشهوات غارقين وغافلين، فلم يلبثوا إلا وفجأة الموت تحضرهم. فتداركوا -أيها المسلمون- قبل أن يكشف الغطاء ويحصل الندم ويكون الطلب. قال الله تعالى: { حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (سورة المؤمنون 99-100) وقوله: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} (سورة المنافقون 10-11).

وفى يوم الجمعة الماضي 4 جمادى الثانية 1446ه (6/12/2024م)، تلقينا نبأ وفاة المرحوم الواعظ الفاضل الشيخ الحاج محيي الدين أجاني بلو. ونتقدم بخالص العزاء وصادق المواساة لأسرة  أجاني بلو فى فقيدهم المغفور له.

لقد ترك موت الشيخ فراغا يصعب ملؤه فى المجتمع المسلم. وسيفقده المجتمع بأكمله فى نيجيريا. غفر الله تعالى للشيخ محيي الدين بلو. وتغمده برحمته وأسكن روحه جنة الفردوس. ونسأل الله أيضا أن يثبِّت أولئك الذين تركهم وراءه لتحمُّل هذه المصيبة.

الله أصلح قلوبنا وسرائرنا وظواهرنا.  وأصلح أعمالنا. واتب علينا واغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا فى أمرنا. اللهم اجعلنا من الصادقين. ووفِّقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحبِّ المساكين. اللهمَّ اغفر لآبائنا وأمهاتنا. اللهم أصلح أحوال المسلمين فى كل مكان. اللهم فرِّج هَمَّ المهْمومين، ونفِّسْ كَرْبَ المكروبين، واشفِ مَرْضى المسلمين. اللهم انصر المسلمين المستضعفين فى فلسطين وسوريا والسودان، وفى كلِّ بُقْعَة من بِقاعِ الأرض. يا أرحم الراحمين.   

Scroll to Top