بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الرابعة لشهر رمضان بتأريخ 28 /9/ 1446ه (28/3/ 2025)
الموضوع: فقه زكاة الفطر وآداب عيد الفطر
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فهو المهتدىِ، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أما بعد
فَيَا عِبادَ اللهِ، أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, اتَّقُوهُ سُبْحَانَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ وَمَسْؤُولِياتِكُمْ فَتَقْوَى اللهِ هِيَ الْعِزُّ مِنْ غَيْرِ جَاهٍ وَنَسَبٍ وَشَرَفٍ مِنْ غَيْرِ مَنْصِبٍ وَحَسَبٍ, هِيَ الْغِنَى مِنْ غَيْرِ مَالٍ, وَبِهَا صَلاَحُ الْحالِ وَالْمَآلِ, قَالَ تَعَالَي: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾{الطَّلاق 2-3}.
إخوة الإيمان، هذا هو الجمعة الأخيرة في هذا الشهر الفضيل، وبعد يوم أو يومين نودع الشهر المبارك، نسأل الله تعالى أن يعيده علينا، فها نحن اليوم في صدد شعائر تتعلق بالفطر من صيام رمضان: فنتناول فقه زكاة الفطر وآداب عيد الفطر
عباد الله، شرعت زكاة الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وهي السَّنَّة نفسها التي فرض الله فيها صوم رمضان، ودليل مشروعيتها ثبت بالسنة في أحاديث عدة، منها ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: “كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله….”، رواه مسلم. ومنها خبر ابن عباس رضي الله عنهما، قال: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر…” رواه أبو داود وغيره. وورد غير ذلك من الأخبار التي يفيد مجموعها وجوب صدقة الفطر على كل مسلم. وقد أشار بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ يدل على صدقة الفطر (تفسير ابن كثير)
عباد الله، شرع الإسلام زكاة الفطر لحِكَمٍ عديدة منها: جبران نقص الصوم؛ وإغناء الفقراء عن السؤال فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتقدم أنها (طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين) ) رواه أبو داود وغيره. وإغناء الفقراء من المطالب التي دلت عليها كليات الشريعة ومقاصدها، فضلاً عما تؤدي إليه هذه الصدقة من التكافل بين المجتمع، والتراحم بين طبقاته، وشعور بعضهم ببعض.
عباد الله، تجب زكاة الفطر على كل مسلم، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، عاقل أو مجنون لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) متفق عليه، ويشترط لوجوبها أمران: الإسلام، والقدرة عليها بأن يكون عنده يوم العيد وليلته قدر زائد عن قوته وقوت عياله ومن تلزمه نفقتهم وحوائجهم الأصلية من طعام وشراب ومسكن وملبس.
عباد الله، إن زكاة الفطر يجب إخراجها بغروب شمس ليلة عيد الفطر، فمن كان من أهل الوجوب حينئذ وجبت عليه وإلا فلا، فإذا مات قبل الغروب ولو بدقائق لم تجب عليه، وإن مات بعده ولو بدقائق، وجب إخراج زكاته، ومن أسلم بعد الغروب فلا فطرة عليه، ولو ولد لرجل بعد الغروب، لم تجب فطرته، لكن يسن إخراجها عنه، بخلاف ما لو ولد له قبل الغروب، فإنه يجب إخراجها عنه.
ويجوز تقديمها قبل يوم العيد بيوم أو يومين؛ لما رواه البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يعطيها -أي صدقة الفطر- الذين يقبلونها، وكان يؤديها قبل الفطر بيوم أو يومين.
ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد لغير عذر، فإن أخرها لغير عذر لم تقبل منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو دواد وغيره.
وأما إن كان التأخير لعذر، كأن يصادفه العيد في مكان ليس عنده ما يدفع منه، أو من يدفع إليه، أو يأتي خبر العيد مفاجئاً بحيث لا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة، أو يكون معتمداً على شخص في إخراجها، فينسى ذلك الشخص أن يخرجها، فله في هذه الحالة أن يخرجها ولو بعد العيد؛ لأنه معذور في ذلك كله.
عباد الله، أما عن الجنس الواجب إخراجه فمن غالب قوت البلد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير)، وكان الشّعير يوم ذاك من طعامهم، كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: “كنا نخرج يوم الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، وكان طعامنا الشعير، والزبيب، والأقط، والتمر” رواه البخاري.
وتدفع صدقة الفطر للفقراء والمحتاجين دون سائر مصارف الزكاة الثمانية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه لله، ولا يجوز دفعها إلى من تجب على الإنسان نفقته، كما لا يجوز دفعها إلى أهل الذمة.
ويجوز دفع زكاة الفطر لفقير واحد، أو عدة فقراء، والأولى دفعها إلى الأقرباء الفقراء، الذين لا تجب نفقتهم على المزكي.
أيّها المسلمون الكرام، ومما ينبغي بيانه أن إخراج قيمة زكاة الفطر نقدا قد كان مسألة اجتهادية منذ عصور، أجازه أبو حنيفة وأصحابه والحسن البصري، وسفيان الثوري، وخامس الراشدين عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – أجازوا إخراج القيمة في الزكاة، ومنها زكاة الفطر،وهو قول الأشهب وابن القاسم عند المالكية.
قال النووي: وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه
قال ابن رشد رحمه الله: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل. ومما يدل لهذا القول:
أ. أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “أغنوهم – يعني المساكين – في هذا اليوم”، والإغناء يتحقق بالقيمة، كما يتحقق بالطعام، وربما كانت القيمة أفضل، إذ كثرة الطعام عند الفقير تحوجه إلى بيعها، والقيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات.
ب ـ ثم إن هذا الأيسر بالنظر لعصرنا وخاصة في المناطق الصناعية التي لا يتعامل الناس فيها إلا بالنقود، كما أنه – في أكثر البلدان وفي غالب الأحيان – هو الأنفع للفقراء.
ج- أن المحققين من علمائنا قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال.
إن المهم أن المسألة اجتهادية يأخذ كل بما اقتنع به دون إنكار. فعلى الذين يثيرون الجدل في هذه القضية أن ينتهوا ويحترموا رأي مخالفيهم من أهل السنة. رفقا أهل السنة بأهل السنة لا تصيقوا على الناس ما وسعه الله. بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الخير العميم.
الخطبة الثانية
إنَّ الْحمْدَ للهِ الْقائلفِي كِتابِهِ الْعَزِيز :﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾{الأعلى :87 \14-15} أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا وَمَوْلانَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ. اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتّابِعين وتابِعِيهِم بإحْسَانٍ إلَى يَومِ الْجَزَاء .
أمَّا بَعْدُ ,
فَيَا عِبادَ اللهِ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة العيد أمته رجالاً ونساء واستقر لدى بعض العلماء أمثال ابن تيمية، رحمه الله، أنها واجبة. ومما يدل على أهمية صلاة العيد ما جاء في حديث أم عطية رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العوائق والحيض وذوات الخدور , فأما الحيض فيعتزلن المصلى , ويشهدن الخير ودعوة المسلمين , قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( لتلبسها أختها من جلبابها ) متفق عليه .
مِنْ آدَابِ ْعِيدِ الْفِطْرِ وَسُنَنِهِ:
أ-والسنة : أن يأكل قبل الخروج إليها تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر , يقطعهن على وتر , لحديث أنس رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً ) رواه البخاري .
ب-ويسن للرجل أن يتجمل ويلبس أحسن الثياب. وقال ابن حجر : وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين .
ج-وأما المرأة فإنها تخرج إلى العيد غير متطيبة , ولا متبرجة , لأنها مأمورة بالستر , والبعد عن الطيب والزينة عند خروجها . قال الله تعالى :﴿ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ﴾ [الأحزاب : 33] وقال صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية ) رواه أحمد والثلاثة.
د-ويسن أن يخرج إلى مصلى العيد ماشياً لا راكباً إلا من عذر كعجز وبعد مسافة لقول علي رضي الله عنه : ( من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً ) رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن .
ه-وينبغي مخالفة الطريق بأن يرجع من طريق غير الذي ذهب منه .
و-ويستحب التهنئة والدعاء يوم العيد . فعن محمد بن زياد قال : كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنك . قال أحمد : إسناده جيد . وقال ابن رجب : وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد ويدعو بعضهم لبعض بالقبول .
الدُّعاء:
اللهُمَّ اخْتِمْ لَنَا شَهْرَ رَمَضَانَ بِرِضْوَانِكَ, وَأَجِرْنَا مِنْ عُقُوبَتِكَ وَنِيرَانِكَ , وَاجْعَلْ مَآلَنَا إِلَى جَنَّاتِكَ. اللّهُمَّ أَعِدْ عَلَيْنَا رَمَضَانَ أَعْوَاماً مُتَتَالِيَة , وَارْزُقْنَا الزَّهَادَةَ فِي الدَّارِ الْفَانِيَة , وَارْفَعْ مَنَازِلَنَا فِي جَنَّةٍ عَالِية. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ قَبِلْتَ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ, وَغَفَرْتَ زَلَلَهُ وَإِجْرَامَهُ , وَوَفَّقْتَهُ لِطَاعَتِكَ فَاسْتَعَدَّ لِمَا أَمَامَهُ . اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الاسْتِقَامَةَ عَلَى دِينِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ , فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ. اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ , وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا , وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ , وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ . وصَلَى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ .