بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الثانية لشهر ذي القعدة بتأريخ 11 /11/ 1446ه 9/5/ 2025)
الموضوع: فضل أداء مناسك الحج والعمرة إبتغاء لوجه الله .
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى خير زاد للقاء الله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102].
عباد الله: لقد اقترب موسم عظيم يحمل بين طياته عبادات جليلة ما بين حج وعمرة وذبح أضحية، وعشر ذي الحجة التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستغلها في الإكثار من سائر العبادات ..
وإن من أجل تلك العبادات وأعظمها الحج والعمرة إذا فموضوع خطبتنا اليوم : فضل أداء مناسك الحج والعمرة إبتغاء لوجه الله .
ومعلوم أن الحجّ فرضُ عينٍ على كلّ مكلّف مستطيع في العمر مرّة، وهو ركن من أركان الإسلام، ثبتت فرضيّته بالكتاب والسّنّة والإجماع، قال تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ)[آلعمران:97]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا”، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم..”(رواه مسلم)، وقد أجمعت الأمّة على وجوب الحجّ في العمر مرّة على المستطيع ، وهو من الأمور المعلومة من الدّين بالضّرورة؛ فمن جحده كفر.
فعلى كل من لم يحج أن يبادر إلى الحج ممن تحققت فيه شروط الوجوب وهي: (الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة من مال وبدن وزاد، ومحرم للمرأة)، وانتفت عنه موانع الأداء لإبراء ذمته، وأداء ما عليه من حق لله تعالى، قبل أن يأتيه الموت فيتحسر على تفريطه
عباد الله : وقد رتب الشارع على أداء الحج والعمرة – متي كان أدائهما إبتغاء لوجه الله – الثواب والأجر العظيم؛ ما يثير همة المسلم، ويشحذ عزمه، ويجعله يُقْبِل عليها بصدر منشرح وعزيمة وثَّابة ، وهو يرجو ثواب الله ومغفرته وما أعده لحجاج بيته الكريم، فجاءت النصوص المتكاثرة في فضائل الحج والعمرة
الحجاج والعمّار وفد الرحمن
صح في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم ) رواه ابن ماجه وصححه الألباني ؛ وأي مكرمة تعدل أن يكون العبد في ضيافة الرحمن جل وعلا، وأي إكرام يعدل إجابة الخالق لدعاء عبده .
وأن الحج من أفضل الأعمال؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل: أي الأعمال أفضل: فذكر “الإيمان، ثم الجهاد، ثم الحج المبرور”(رواه البخاري)
وأن الحج المبرور جزاؤه الجنة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “.. والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”(رواه مسلم)، والحج يهدم ما كان قبله؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “..وأن الحج يهدم ما كان قبله..”(رواه مسلم)
والحاج يعود بعد حجه كيوم ولدته أمه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” (رواه البخاري ومسلم)
والحج أفضل الجهاد؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة رضي الله عنها: “أفضل الجهاد حج مبرور” (رواه مسلم)
الحج من أسباب الغنى ومضاعفه النفقة
قد يتوهم الإنسان بأنه إذا انفق ماله في الحج والعمرة، فقد يؤدي ذلك إلى نقص ماله، وتعرضه للحاجة والفاقة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيل هذا الوهم والخوف، فبيَّن أن إنفاق المال في الحج والعمرة والمتابعة بينهما جلب للرزق، ونفي للفقر عن العبد بإذن الله؛ وقد صح في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ) رواه أحمد وغيره، والكير هو الآلة التي ينفخ فيها الحداد في النار ليخرج الشوائب والأوساخ التي تعلق بالحديد .
وكما وعد الله عز وجل بالإخلاف على العبد في الدنيا ما ينفقه في الحج والبسط له في الرزق، وعده كذلك بمضاعفة تلك النفقة عنده سبحانه، كما تضاعف النفقة في سبيل الله، فعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ) رواه أحمد بإسناد حسن .
الحاج في ضمان الله وحفظه
لما كان الحج مَظِنة لبعض الأخطار والمخاوف التي قد تقعد بالعبد وتجعله يحجم عن أداء هذه الفريضة، ضمن الله عز وجل لمن خرج حاجًا لبيته، وقاصدًا تلبية ندائه، الحفظ والرعاية، في الحياة وبعد الممات؛ ففي الدنيا إن عاد إلى أهله رجع بالأجر والثواب، وفي الأخرى بُعث على الحالة التي مات عليها، ومن كان الله معه فأي شيء عليه؛ وقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازيا في سبيل الله تعالى، ورجل خرج حاجًا ) رواه أبو نعيم وصححه الألباني .
وثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل الذي وقصته راحلته – أي ضربته فمات -: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه بثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا ) متفق عليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل لأمة الإسلام أزمنة فاضلة يتنافس فيها الأخيار ويبادر لها عباد الله الأطهار، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله خير من بادر لاستغلال وقته فيما يعود عليه بالخير له ولأمته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن التقوى هي خير زاد للعبد في الدنيا والآخرة
عباد الله: إن الحج تمرين عملي واضح للرحلة الطويلة إلى الدار الآخرة.
وفيه امتثال لأوامر الله -تعالى- واستجابة لندائه. وفيه تأس بأبينا إبراهيم عليه السلام. وفيه ارتباط بمهبط الوحي ومتنزل التشريع. وفيه نوع من أنواع السياحة المحمودة التي يحبها المؤمنون الصادقون. وفيه إعلان عملي لمبدأ المساواة بين الناس، قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13].
وفيه تذكرة بيوم اللقاء الأكبر على الله -تعالى
وفيه توثيق لمبدأ التعارف والتعاون والمحبة.
وفيه جمع للناس على مبدأ التوحيد الصافي. وهو مؤتمر سنوي للمسلمين تظهر فيه وحدة الأمة تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهكذا تتبين للمسلمين أهداف الحج وآثاره العظيمة عليهم في العاجل والآجل.
قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ” (الحج: 26-29)
أيها المسلمون، ظهر في الآونة الأخيرة على مناصت التواصل الاجتماعي فتنةُ جماعةٍ شركيةٍ ضالّةٍ مضلّةٍ المسماة بهذه الحروف – ر م ق ك- (RMQK) اختصارا، ويمثل أسماء أربعة من الجن والأرواح كما يدعيه، وهم: رَوْقِيائيل، مَرْقطيائيل، قيقيائيل، وكشفيائيل-
وتُعد نفسها منظمة روحية ومقرها في مدينة أبيوكوتا، بولاية أوغون في نيجيريا، وتأسست على يد رجل يُدعى معروف أبولادي صلاح الدين أداجونجا، والذي يُشار إليه كثيرًا من قبل أتباعه بلقب “الروح الأكبر” (Emi Agba). وتُعرّف RMQK نفسها بأنها مجموعة للتنوير الروحي وليست جماعة دينية.
تدّعي الروحانية والعلم الباطني، وتتستر بستار الإسلام والدين، وهي منه براءـ، وهي جماعة تدّعي التواصل مع الجن، وتستحضرهم في جلساتهم، وتزعم أنها تملك مفاتيح الغيب والعلاج والبركة، والله تعالى يقول:
﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59].
يا عباد الله، إن التواصل مع الجن والملائكة وطلب العون منهم من الشرك الأكبر، وقد نهى الله عنه في كتابه، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6].
فالخلاصة أن تحضير الأرواح هو تحضير لأرواح الجن وليس لأرواح الملائكة أو البشر، ولا يجوز الاعتماد على ما تخبر به هذه الأرواح، فقد تكون صادقة وقد تكون كاذبة فيما تقول، وتحضير أرواح الجن أمر ممكن غير مستحيل، لعدم ورود ما يمنعه، ولحدوثه واقعا، والذي لا يمكن ويسمى خرافة هو تحضير أرواح الملائكة وأرواح بني آدم اهـ
وقال النبي ﷺ: “مَن أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد” [رواه أحمد].
فكيف بمن يجعل الجن أندادًا، ويذكر أسماءهم، ويتقرب إليهم بأوراد وأذكار ما أنزل الله بها من سلطان؟!
أيها المؤمنون، إن جماعة RMQK وأمثالها تستدرج الناس بزخرف القول، وتخدع الجهلة والضعفاء بلباس الدين، وتغريهم بالعلاجات والسحر الأبيض، وهي باب من أبواب الضلال. ومن الغرائب والعجائب حول القضية انتماء بعض المعروفين من المسلمين إليهم الذين قد تخرجوا من بعض المدارس الإسلامية بأنواع الشهادات، وصاروا خدماء التميل للخبيث والشرك بعلمهم والمعرفة إلا أنها في الحقيقة جهلة فارغة!!! كما قال أبو حنيفة: يأتينا من الشرق رجلان خبيثان، جهم معطلة ومقاتل مشبه
فاحذروا أيها المسلمون من هذه الطرق الملتوية، ولا تغتروا بالمظاهر، فإن الدين ليس خرافات ولا أورادًا شركية، بل هو كتاب وسنة، واتباع للهدى، وكونوا في حذر تام بنسبة ما يحصله أولادكم في المدارس الإسلامية، وما تنتجه المدارس.
الدعاء: اللهم اهدنا وسددنا، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، ورد كيده في نحره، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، اللهم عليك بمن يكيد للإسلام والمسلمين، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز. وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.