تعظيم شعائر الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الثانية لشهر ذي الحجة: بتاريخ 10/12/1446هـ (6 مايو 2025م)

شعائر الله ووجوب تعظيمها

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين الذي أمرنا بطاعته ونهانا عن معصيته وتجاوُزِ حُدودِه،  ودلَّنا على تعظيم شعائره بفضله  ومنته، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وحبيب قلوبنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وآله  الطاهرين، وارض اللهم عن صحابته الغر الميامين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

      فاتقوا الله تعالى – أيها المسلمون – واملؤوا قلوبكم تعظيما وتوقيرا واجلالا لربكم ولنبيكم ولدينكم ولكل أحكام دينكم، { فَٱتَّقُواْ ‌ٱللَّهَ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (سورة المائدة 100).

        أيها المسلمون: جاء موضوع خطبتنا اليوم، وهو: ” شعائر الله ووجوب تعظيمها” فى هذا الزمان الذي  يتهاون الكثير من الناس  بتعظيم شعائر الله تعالى وإقامتها، وظهَر كثيرٌ من الْمُخالَفات  والاستخفاف بهذه الشعائر التي عظّمَها الله عز وجل وأمرنا بتعظيمها، ويقول سبحانه: {ذَٰلِكَۖ ‌وَمَن ‌يُعَظِّمۡ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ} (سورة الحج 32)، فجعل تعظيم شعائر الله من التقوى، وأضاف التقوى إلى القلوب لأن القلب هو محل التقوى، كما أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى صدره ثلاث مرات، وقال ((التَّقْوَى هَاهُنَا)) (رواه مسلم والترمذي وأحمد). ومن أعظم ما يدل على تقوى القلب: امتثال أوامر الله تعالى واجتناب حرماته.

       والشعائر – أيها الإخوة المسلمون- جمع شعيرة وهي العلامة مأخذوذة من الإشعار (الإعلام) وشعائر الله هي ” أَعْلاَمُ دينه ومظاهره التي شرعها وأمر عباده بها، وتعظيم شعائر الله: إجلالها وإحلالها المكانة الرفيعة فى المشاعر والقلوب، وأداؤها برغْبَةٍ ومَحبَّةٍ وشَغَفٍ،  وشعائر الله تحيط حَيَاتَنَا كُلَّهَا، وهى على عدة أنواع،  ولكل نوع مظاهر، منها: الشعائر الزمانية، ويُقْصَدُ بها الشعائر التي تَرْتَبِطُ بزمانٍ مُعَيَّنٍ، فقد شرَّف الله تعالى بعض الأَزْمِنَةِ على بعض، لِما يحصل فيها من الهداية والخير ومن الأزمنة التي شرفها الله عزوجل: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر {شَهۡرُ ‌رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٍ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ} (سورة البقرة 185)  {لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٌ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٍ} (سورة القدر3). ومنها: أيام العشر من ذي الحجة وفيها يوم عرفة ويوم النحر ، وهي أيام العمل الصالح فيها أفضل من الجهاد. ((  مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))( رواه أبو داود وأحمد)، وأفضل هذه الأيام يوم عرفة الذي ينظر الله تعالى إلى أهل عرفة ويباهي بهم ملائكته ((إِنَّ الله تَعَالى يباهى  ملائكتَهُ عَشيَّةَ عَرَفَةَ بأهْلِ عَرَفَةَ يَقُولُ: أنْظُرُوا إِلى عِبَادى أتَوْنِى شُعْثًا غُبْرًا)) (انظر: الجامع الكبير 2/241).  ويوم النحر بعده، وذبح الأضحية فيه وهو أفضل الأعمال فى هذا اليوم المبارك ، ((إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ  يَوْمُ الْقَرِّ))(رواه أبو داود). ((ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله تعالى من إراقة الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً)) (رواه الحاكم وصححه. وحسنه الترمذي). والإحسان فى اختيار الأضحية من شعائر الله التي ورد ذكرها فى القرآن الكريم، قال تعالى: {‌وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَـٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٌ} (سورة الحج 36) .   ومن شعائر الله الزمانية: الأشهر الحرم، وقد اختارها الله تعالى، وفضلها على غيرها من الشهور، وحرمها يوم خلق السموات والأرض ،كما قال الله تعالى: { إِنَّ ‌عِدَّةَ ‌ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرًا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ} (سورة التوبة 36). ومن شعائر الله الزمانية: يومنا هذا يوم الجمعة، وقد جاء فى صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) (رواه مسلم).

        إخوة الإيمان: ثم هناك الشعائر المكانية وهي الأماكن التي فضلها الله عز وجل على غيرها مثل: مساجد الأرض، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: قَال تَعَالَى: ((إِنَّ بُيُوتِي فِي أَرْضِي الْمَسَاجِدُ، وَإِنَّ زُوَّارِي عُمَّارُهَا، فَطُوبَى لِعَبْدٍ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي فَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ)) (انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 30/299). وقال عليه الصلاة والسلام: ((أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها)) (رواه مسلم). وأفضل المساجد: المسجد الحرام والمسجد  الأقصى والمسجد النبوي، فهذه أعظم بيوت الله تعالى، جعل الله أجر الصلاة فيها أعظم مما سواها، وحرَّم على المسلمين أن يعصُوا ربَّهم فيها، فكما تتضاعف فيها الحسناتُ، تتضاعف السيئات. قال عليه الصلاة والسلام: ((لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)) (رواه البخاري). وتعظيم الحرم المكي من تعظيم شعائر الله، وقد فضل الله تعالى مكة المكرمة على سائر البلاد وحرم صيد حيواناتها أو تنفيرها، أو قطع شجرها، أو التقاط لقطتها،  لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا)) (رواه البخاري). ((فضْلُ الصَّلاةِ فِي المسجد الحرام على غيره مِئَة أَلْفِ صَلاةٍ وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلاةٍ وَفِي مسجد بيت المقدس خمسمِئَة صَلاةٍ)) (وراه البيهقي، والترغيب والترهيب للمنذري 2/216). وقد توعد الله تعالى من يريد السوء فى مكة، فقال عز وجل: { ‌وَمَن ‌يُرِدۡ ‌فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٍ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (سورة الحج 25).

بارك الله لنا في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما، أقولُ هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

                                           الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

         اتقوا الله تعالى -أيها المسلمون- واعمُرُوا أوقاتَكم بطاعة الله – جل وعلا -، ولا تُشْغِلنَّكم مطالبُ الحياة الفانية عن حقائق الآخرة الباقية؛ فإن الفلاحَ والظَّفَر إنما هو في الاستقامة على طاعة الله – جل وعلا – إلى الممات، كما كان عليه نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم.

         إخوة الإيمان: وبعد هذ ا اليوم المبارك، ستبدأ أيام التشريق وهي الأيام الثلاثة بعد يوم عيد الأضحى، ويقال لها أيضا أيام منى لأن الحجاج يقيمون فيها بمنى،  وهي من الأيام المباركة التي ذُكِر فضلُها فى السنة المطهرة، وهي من أيام النّفَحَاتِ التي حثَّنا نبينا صلى الله عليه وسلم على أن نتعرَّض لها ونغترف من خيراتها،  وهي أيام ذكر الله تعالى وشكره وإن كان الحق أن يذكر الله تعالى ويشكره فى كل وقت وحين، لكن يتأكد فى هذه الأيام المعدودات المباركة قال الله عز وجل: { وَٱذۡكُرُواْ ‌ٱللَّهَ ‌فِيٓ أَيَّامٍ مَّعۡدُودَٰتٍ}(سورة البقرة 203)  قال ابن كثير: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ” الأيام المعدودات أيام التشريق، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أَيَّامُ التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله)) (أخرجه مسلم) ولا يصح الصيام فيها لأنها عيدنا قال عليه الصلاة والسلام: ((يَوْمُ عَرَفَةَ،(أي للحجاج بعرقة) وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وهي أيام أكل وشرب)) (حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة فى صحيحه) وسميت أيام التشريق لأن الحجاج يشرقون فيها لحوم الهدايا أي ينشروها.

       ويسن ذكر الله تعالى فى هذه الأيام عقب الصلوات المكتوبات وهو مشروع إلى صبح أو عصر آخر أيام التشريق وهذا بالنسبة للتكبير المقيد الذي يقال بعد الصلوات المفروضة، أما التكبير المطلق فيبدأ من رؤية هلال ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق، ويستحب رفع الصوت بالتكبير فى هذه الأيام وهو من الشعائر التي تميزت بها الأمة الإسلامية عن بقية الأمم. وأما مسألة التكبير الجماعي فهي مسألة من مسائل الخلاف التي يسوغ الخلاف فيها وليس على من أخذ بأحد  القولين أو قلد من يفتي به تثريب، ولا ينبغي أن تكون أمثال هذه المسائل مثار نزاع أو خصومة بين المسلمين، بل الواجب على من ظهر له رجحان قول ما أن يعمل به من غير إنكار على من يخالفه.

و قد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة السعودية ببدعية الذكر الجماعي بحجة أنه  لا أصل له لا دليل عليه وهو من الأمور المحدثة التي نهانا عليه الصلاة والسلام فى قوله: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه. وأما دار الإفتاء المصرية فقد أفتت بأن التكبير الجماعي فى العيدين وأيام التشريق عقب الصلوات المكتوبات مستحب شرعا بل هو من إظهار شعائر الله تعالى. قال الإمام البخاري رحمه الله:   (كان عمر رضي الله عنه يُكَبِّرُ في قُبَّتِهِ بمنى، فيسمعه أهلُ المسجد فيُكبِّرون ويُكَبِّر أهلُ الأسواق حتى ترتجّ مِنىً تكبيراً (رواه البخاري. وجاء في ” فتح الباري شرح صحيح البخاري” قوله: “ترتج” أي: تضطرب وتتحرك وهي مبالغة فى اجتماع رفع الأصوات”.  قال البخاري أيضا: (وكان ابنُ عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يَخرجان إلى السوق في أيام العشر يُكَبِّران ويُكَبِّر الناسُ بتكبيرهما). قال الشافعي رحمه الله فى الأم: (فَإِذَا رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ أَحْبَبْتُ أَنْ يُكَبِّرَ النَّاسُ جَمَاعَةً، وَفُرَادَى فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَسْوَاقِ، وَالطُّرُقِ، وَالْمَنَازِلِ، وَمُسَافِرِينَ، وَمُقِيمِينَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَيْنَ كَانُوا، وَأَنْ يُظْهِرُوا التَّكْبِيرَ، …. وكَذَلِكَ أُحِبُّ فِي لَيْلَةِ الْأَضْحَى لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ) (الأم للشافعي 1/264).

ونُنَبِّهُ على ضرورةِ عدَمِ جَعْلِ مِثْلِ هذه الأمورِ سَبَباً فى الفِتَنِ والشِّقَاقِ بين المسلمين أو يحكم على من خالفه بالمبتدع، فى هذه الأيام المباركات أيام الفرح.

الدعاء:  اللهم أحينا فى الدنيا عابدين خاشعين، وتوفنا مسلمين تائبين، واجعلنا من عبادك الطائعين، وارزقنا التوجه إليك وحسن اليقين، وجنبنا وبلدنا جميع الآفات، وطهرنا من جميع السيئات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وانصر المسلمين المستضعفين فى كل مكان. اللهم غياث المستغيثين ظهير لاجئين نصير المستضعفين انصر إخوننا أهل فلسطين، وفرج كربتهم، وارفع عنهم البلاء واخذل أعدائهم، وأيدهم بنصرك وبجنودك وبملائكتك، وبالمؤمنين. اللهم إنا نسألك الأمن والسلام فى بلدنا هذا وفى بلاد المسلمين. يا أرحم الراحمين.    

Scroll to Top