محبة الرّسول بين الاتباع والابتداع

بسم الله الرّحمان الرّحيم

الخطبة الثانية لشهر ربيع الأوّل بتأريخ 12 ربيع الأول 1447هـ (5\9\2022م)

حول: محبّة الرسول بين الاتّباع والابتداع

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ الذي خصنَا بخيرِ رسلهِ، وأنزلَ علينَا أكرمَ كتبهِ، وشرعَ لنَا أكملَ شرائعهِ، أحمدهُ سبحانهُ وأشكرهُ، لا أحصي ثناءً عليهِ، أكملَ لنَا الدينَ، وأتمَّ علينَا النعمةَ، فقالَ جلَّ منْ قائلٍ كريمٍ: ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ” (المائدة: 3)، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ – صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ.

أما بعدُ فاتقوا اللهَ حقَّ التقوى. فالتقوى هيَ وصيةُ اللهِ لجميعِ خلقهِ. ووصيةُ رسولِ اللهِ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – لأمتهِ، قال تعالى: ” وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ” (النساء: 131).

إخوة المستمعون الأعزاء؛ ومنْ رحمةِ اللهِ بنا أنْ بعثَ فينا محمدًا (صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) وأمرنا بالإيمانِ بهِ وتصديقهِ، واتباعهِ، والاقتداءِ بهِ، والانتصارِ لهُ، ومحبتهِ، وتقديمهِ على النفسِ والمالِ والولدِ؛ فعلى يديهِ كملَ الدينُ، وبهِ ختمتِ الرسالاتُ، وأرسلَ إليهِ أفضلَ الشرائعِ، وأنزلَ إليهِ أفضلَ الكتبِ, فهوَ خليلُ اللهِ، وهوَ كليمُ اللهِ، وهوَ صفيهُ، وهوَ رسولهُ، وهوَ حبيبهُ. ففتحَ اللهُ بهِ أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وأخرجَ بهِ الناسَ منَ الضلالةِ إلى الهدى ولذالك يدور موضوع خطبتنا اليوم حول : محبّة الرسول بين الاتّباع والابتداع

عبادَ اللهِ: كانَ ثوبانُ مولى رسولِ اللهِ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – شديدَ الحبِّ لهُ، قليلَ الصبرِ عنهُ، فأتاهُ ذاتَ يومٍ وقدْ تغيرَ لونهُ، ونحلَ جسمهُ، يُعرفُ في وجههِ الحزنُ، فقالَ لهُ النبيُّ – صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ -: مَا غيّرَ لونكَ؟! قالَ: يا رسولَ اللهِ، ما بي ضرٌّ ولا وجعٌ غيرَ أني إذا لمْ أركَ اشتقتُ إليكَ واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاكَ، ثمَّ ذكرتُ الآخرةَ وأخافُ أنْ لا أراكَ هناكَ، لأنّي عرفتُ أنّكَ ترفعُ معَ النبيينَ، وأني إنْ دخلتُ الجنةَ كنتُ في منزلةٍ هيَ أدنى منْ منزلتكَ، وإنْ لمْ أدخلْ لا أراكَ أبدًا، فأنزلَ اللهُ – عزَّ وجلَّ – قولهُ: ” وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ” (النساء: 69).

عبادَ اللهِ ؛ وقدِ امتنَّ اللهُ بنبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وسلّم) على الثقلينِ؛ الإنسِ والجنِّ، وأرسلهُ إليهما معًا، ففتحَ اللهُ بهِ أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وأخرجَ بهِ الناسَ منَ الضلالةِ إلى الهدى.

إنهُ محمدٌ ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ )أعزُّ الناسِ نسبًا، وأشرفهمْ مكانةً، أظهرَ اللهُ على يديهِ منَ المعجزاتِ ما أبهرَ العقولَ، ففلقَ لهُ القمرَ فلقتينِ، وتكلمتِ الحيواناتُ بحضرتهِ، وسبحَ الطعامُ وتكاثرَ بينَ يديهِ، وسلمَ عليهِ الحجرُ والشجرُ، وأخبرَ بالمغيباتِ، فما زالتْ تتحققُ في حياتهِ وبعدَ وفاتهِ. وقد بلغَ الرسالةَ أحسنَ بلاغٍ، وأدى الأمانةَ أحسنَ أداءٍ، ونصحَ الأمةَ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادهِ.

إنهُ محمدٌ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – الذي اختصهُ اللهُ منْ بينِ إخوانهِ المرسلينَ بخصائصَ تفوقُ العدَّ، فلهُ الوسيلةُ والفضيلةُ والمقامُ المحمودُ ولواءُ الحمدِ وأولُ منْ تنشقُّ عنهُ الأرضُ يومَ القيامةِ، وأولُ منْ يفتحُ لهُ بابُ الجنةِ، وهوَ أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ، وهوَ سيّدُ ولدِ آدمَ أجمعينَ كما زكاهُ ربهُ تزكيةً ما عُرفتْ لأحدٍ غيرهُ منَ المخلوقينَ، فلقدْ زكى اللهُ عقلهُ فقالَ: ” مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ” (النجم: 2)، وزكّى لسانهُ فقالَ: ” وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ” (النجم: 3)، وزكّى شرعهُ فقالَ: ” إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ” (النجم: 4)، وزكّى قلبهُ فقالَ: ” مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ” (النجم: 11)، وزكى بصرهُ فقالَ: ” مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ” [النجم: 17]، وزكى أصحابهُ فقالَ: ” وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ” (الفتح: 29).

وزكى دعوتهُ فقالَ: ” قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ” (يوسف: 108]).

محمدٌ ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ) الذي لا تحصَى فضائلهُ، ولا تعدُّ مزاياهُ، فما منْ صفةِ كمالٍ إلا واتّصفَ بها، ولا خصلةِ خيرٍ إلا وتحلى بها. جمعَ اللهُ له أجلَّ المقاماتِ، وأسمى المراتبِ، وأكملَ المناقبِ، إذا ذُكرَ العبادُ فهوَ إمامهمْ، وإذا أشيرَ إلى العلماءِ فهوَ معلمهمْ، وإذا أشيدَ بالشجعانِ فهوَ قائدهمْ، وإذا مُدحَ الدعاةُ فهوَ قدوتهمْ.ففي تلك المزايا أمرنا الله تعالى باتباعه والاقتداء به(صلّى الله عليه وسلّم) كقوله تعالى : “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرا” ( الأحزاب:21)     

“… وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواوَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ” (الحشر:7)

عبادَ اللهِ؛ لنْ يَكْتملَ الإيمانُ الحقيقيُّ في قلوبنا، ولنْ نذوقَ حلاوتهُ، ونُحسُّ بالراحةِ النفسيةِ الحقيقيةِ والطمأنينةِ؛ حتى نحبَّ النبيَّ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – حبًّا أكثرَ منْ أنفسنا وأهلِينا وأموالنا وكلِّ الدنيا. قال الله تعالى : ” قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”   (  آل عمران :31)    فعنْ أبي هريرةَ – رضيَ اللهُ عنهُ – أنَّ رسولَ اللهِ (صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ) قالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (متّفق عليه)   فهذا الحديثُ منْ أوضحِ الأدلةِ على وجوبِ محبةِ الرسولِ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ -؛ لأنَّ المؤمنَ لا يستحقُّ اسمَ الإيمانِ الكاملِ، ولا يدخلُ في عدادِ الناجينَ؛ حتى يكونَ الرسولُ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – أحبَّ إليهِ منْ والدهِ وولدهِ والناسِ أجمعينَ.

عباد الله الكرام ؛فمنْ لوازمهِ أنْ تكونَ أوامرُ الرسولِ ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ) ونواهيهِ مقدمةً على كلِّ الأوامرِ والنواهي في جميعِ ما جاءَ بهِ منَ المكارمِ والمحاسنِ والفضائلِ، في العسرِ واليسرِ، ووقتِ الضرِّ والشكرِ، وعلى صعوبةِ الأمرِ وسهولتهِ، ومحنتهِ ونعمتهِ، وعلى جوعنا وشبعنا، وبلائنا ورخائنا، ومنشطنا ومكرهنا، وحالِ سعتنا وضيقنا، أوْ حالِ غضبنا ورضانا، أوْ حالِ حزننا وفرحنا، يجبُ أنْ نقدمَ محبةَ الرسولِ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – في جميعِ هذهِ المواقفِ.

فأصحابهُ (رضيَ اللهُ عنهمْ ) أحبهُ حبًّا ما سمعَ التاريخُ بمثلهِ. سئلَ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ – رضيَ اللهُ عنهُ – كيفَ كانَ حبكمْ لرسولِ اللهِ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – فقالَ: “كانَ واللهِ أحبَّ إلينا منْ أموالنا وأولادنا وأبنائنا وأمهاتنا ومنَ الماءِ الباردِ على الظمإِ”

قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ – رحمهُ اللهُ -: وأما السببُ في وجوبِ محبتهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وتعظيمهِ أكثرَ منْ أيِّ شخصٍ؛ فلأنَّ أعظمَ الخيرِ في الدنيا والآخرة لا يحصلُ لنا إلا على يدِ النبيِّ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بالإيمانِ بهِ واتباعهِ، وذلكَ أنهُ لا نجاةَ لأحدٍ منْ عذابِ اللهِ، ولا وصولَ لهُ إلى رحمةِ اللهِ إلا بواسطةِ الرسولِ؛ بالإيمانِ بهِ ومحبتهِ وموالاتهِ واتباعهِ.) (مجموع الفتاوى 27).

وإنَّ منْ مقتضياتِ هذا الحبِّ – أيضًا – أنْ يكثرَ المسلمُ منْ ذكرهِ والصلاةِ والسلامِ عليهِ، وأنْ يتمنى رؤيتهُ، والشوقَ إلى لقائهِ، وسؤالَ اللهِ اللحاقَ بهِ على الإيمانِ، وأنْ يجمعَ بينهُ وبينَ حبيبهِ في مستقرِّ رحمتهِ، وقدْ أخبرَ ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ) بأنهُ سيوجدُ في هذهِ الأمةِ منْ يودُّ رؤيتهُ بكلِّ ما يملكونَ، فأخرجَ مسلمٌ في صحيحهِ عنْ أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ )قالَ: « مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا، نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ »[] أخرجه مسلم]

أيها المسلمونَ: إنَّ البرهانَ الصادقَ لمحـبةِ النبيِّ ( صلى اللهُ عليهِ وسـلمَ ) هوَ تعظـيمهُ وإجـلالهُ وطاعتهُ، وكذا تعظيمُ ما جـاءَ بهِ منَ الشـريعةِ الحـنيفيةِ السمحةِ منْ غيرِ غلوٍ ولا جفاءٍ، كما فهمها سلفُ هذهِ الأمةِ وطبقوها في واقعِ حـياتهمْ. محبتهُ ) صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ( عملٌ واستقامةٌ واقتداءٌ، وبذلٌ وتضحيةٌ لهذا الدينِ؛ وهيَ – كذلكَ – محبةٌ وشوقٌ وحنينٌ. وتقتضي هذهِ المحبةُ طاعتهُ وتعظـيمهُ، والتحـاكمُ إلى شريعتهِ، وإتباعِ هديهِ وسـنتهِ، وتوقـيرهِ، والدفاعِ عنه، ونصرتهِ حـيًا وميتًا، والثـناءِ عليهِ بما هوَ أهلهُ.

أيها المسلمونَ، بعضُ الناسِ يدعي محبةَ النبيِّ ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ )، وإذا نظرتَ في أقوالهِ وأعمالهِ رأيتهُ مخالفًا لشريعتهِ وهديهِ، والمسلمُ حقًا صلتُهُ بمحمدٍ (صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ) صلةٌ على الدوامِ وفي كلِّ الأحوالِ، فهوَ في وضوئهِ وصلاتهِ وفي صومهِ وحجهِ وزكاتهِ وكلِّ معاملاتهِ، في أكلهِ وشربهِ ونومهِ ويقظتهِ، وفي كلِّ أخلاقهِ وسلوكهِ وتصرفاتهِ، مقتدٍ بالحبيبِ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ).

إنَّ محبةَ الرسولِ ) صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ( ليستْ مجردَ كلماتٍ ومدائحَ تُلقى منْ فترةٍ لأخرى، أوْ في إحياءِ ليلةٍ من الليالي منْ كلِّ عامٍ، تقرأُ فيها الأورادُ، وتنشدُ فيها المدائحُ النـبـويــةُ والأورادُ الصوفيةُ، وتقامُ فيها الحفلاتُ والرقصاتُ بل تعني طاعتهُ وليسَ كما يظنهُ البعضُ بالاحتفالِ السنوي وليس في ذلك شيء سوى مخالفته : ” …فَلِيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ“(النّور:36)

وقال شاعر : لو كان حبّك صادقا لأطعته # إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع  .

وكُمْ انْحَرَفَ أَقوامٌ عَن صِرَاطِ الله حِينَ جَهِلُوا دِينَ اللهِ، فاستَحْسَنوا أَعمالاً يَتَقَرَّبُونَ بها إلى اللهِ باسم المحبّة للرّسول (صلّى) ما لَمْ يَشْرَعْها اللهُ لَهم، لَيْسَ لَهم عليها في كِتابِ اللهِ مُسْتَنَدٌ، ولَيْسَ لهُم عليها مِنْ سُنةِ رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- دَلِيل. وقَدْ قال الله في التَنْزِيل “أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ” (الشورى:21)  وعَنْ عَائِشَةَ -رَضي اللهُ عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: “مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ علَيهِ أَمرُنا فَهو رَدّ”(رواه مسلم) مَنَ عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ على هَدْيِنا وَشَرِيْعَتِنا فَهوَ مَرْدُودٌ. قال النَّوَوِيُّ -رحمه الله- عَن هذا الحديث: “إِنَّهُ قاعِدَةٌ عَظِيْمَةٌ من قواعِدِ الإِسلامِ، وإِنَّهُ مِنْ جَوامِعِ كَلِمِهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- فإِنَّهُ صَرِيْحٌ في ردِّ البِدَعِ والمُخْتَرَعَاتِ.

التحذير من الشبهات المثارة حول القرآن والسنة والصحابة ورد الأزهر الشريف عليها

عباد الله الكرام، لقد ورد إلى مشيخة الأزهر الشريف كتابٌ من إخوانكم طلبة العلم وأئمة المساجد ودعاة بلاد يوربا بجنوب غربي نيجيريا، يشكون فيه ما أُثير في بلادهم من شبهات خطيرة على يد بعض المنتسبين إلى العلم، تلك الشبهات التي أدّت إلى تمزيق الصفوف، وإحداث البلبلة والاضطراب بين المسلمين.

وقد طلب إخوانكم هؤلاء من مشيخة الأزهر أن تبيّن الحق في هذه القضايا، وأن تصدر الفتاوى العلمية الشرعية في خمس عشرة مسألة كبرى، كانت سببًا في إثارة الخلاف، وتحريك الشبهات، وإشعال الفتن بين الناس، حتى يكون المسلمون على بصيرة من أمر دينهم، فيجتمعوا على كلمة سواء، بعلم راسخ وهدي مستقيم.

وقد أوضح الإخوة أن من أبرز ما ساعد على تأثير هذه الشبهات في الرأي العام الإسلامي أمورًا عدة، لخصوها في ثلاثة محاور رئيسة:

أولاً: جلوس الباثِ على عرشٍ علميٍّ عتيقٍ في المنطقة، والذي له أثره القوي في التأثير في الرأي العام العلمي والديني في البلاد، فيُضفى على المواقف الصادرة منه شبهة قداسة علمية تؤثّر في القبول العام لدى الجماهير المسلمة.

ثانياً: انتساب الباثِ هذه المسائل والدائب على نشرها إلى الأزهر الشريف بل ولا يكاد يُبَيِّن إلا وعليه الرداء الأزهري الناصع! مع وجود ثلة كبيرة من خريجي الأزهر الشريف رتّبوا صلتهم في قائمة من يسانده الرأي والموقف في هذه المسائل، الأمر الذي يستبدل به عوام مسلمي البلاد على أن المواقف أُدّيت مواقف أزهرية بامتياز.

ثالثاً: أن إثارة الكلام في هذه المسائل قد سببت الفرقة والتباغض والتنابذ والشقاق على نطاق واسع بين مسلمي بلاد يوربا جنوب غربي نيجيريا؛ لأن المواقف من المؤيدين للباحث هذه المسائل والمعارضين له.

وقد ردَّت مشيخة الأزهر على كل قضية ردًّا شافيًا، وبيانًا قويًا لا غموض فيه ولا التباس، ونقدّم إليكم اليوم واحدًا من هذه الردود نظرًا لضيق المقام وضيق الوقت، وهو كما يلي:

1- هل يفتقر المسلم إلى أي حديث بعد القرآن؟ استنادا إلى قوله تعالى (فبأي حديث بعده يؤمنون)

هذا التساؤل متضمن شبهة بسلب الحجية عن السنة النبوية والرد عليها من وجهين:

الأول: أما الآية الكريمة فلا دلالة فيها على مضمون السؤال حتى يستند في الإجابة عنه بالإيجاب أو بالنفي،

لأن سياقها إنما هو في الاستفهام الاستنكاري على الكافرين المكذبين، لعدم تصديقهم بدعوى القرآن لهم إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، ومعنى السؤال: أنهم لم يؤمنوا على الرغم مما ساقه الله تعالى لهم في قرآنه من التذكير بالآيات ونبأ البعث والحساب يوم القيامة، فبأي حديث أو كلام بعده يؤمنون؟ وقد تكرر هذا السياق في القرآن الكريم أكثر من مرة، في سورة الأعراف، والجاثية، والمرسلات، وكلها في مضمار الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر واستنكار موقف الكافرين منها، قال تعالى ” أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ” (الأعراف: 185)، وقال تعالى في سورة الجاثية ” تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ” (الجاثية: 6)، وقال تعالى في سورة المرسلات ” وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)” (المرسلان 48، 49، 50)

الثاني: أنه على فرض التسليم بدلالتها جدا على وجوب الاكتفاء بكلام الله تعالى الذي هو القرآن، فإن المؤمن بالقرآن مفتقر معه بالضرورة الحكمية إلى حديث النبي-صلى الله عليه وسلم- أو إلى سنته، لأن الله تعالى أمر في قرآنه بطاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- واتباعه، قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ” (الأنفال: 20) وقال تعالى “وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ” (الحشر: 7)، وقال تعالى ” قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (آل عمران: 31)، وقال تعالى ” (النجم: 3، 4) والله أعلم

نسأل الله تعالى أن يرينا الحقّ حقّا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

الخطبة الثّانية

الحمد لله ربّ العالمين مجيب لدعاء المضطرين عندما تضيق الحيل وينقطع الأمل ويبطل العمل تفرّ إلى من لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه؛فتجده مسهّل الصّعب الشديد،ومليّن الأمر العنيد متذكرا “أَمَنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ…” (النمل :62)

عباد الله المستمعون الكرام؛ اعلموا أنّ الله تعالى وعد بإجابة  المضطرّ إذا دعاه، والسبب في ذالك أنّ هذه الضرورة التي يقع فيها هذا الدّاعي ناشئة عن إغلاق كلّ أبواب النّجاة أمامه، وهذا التوجيه منه إلى الله تعالى فيه حرارة التّوحيد، وعندما ينقطع العبد عمّا سوى الله تعالى يكون العبد صادقا في توحيده وطلبه وللصّدق عند الله موقع ومكان، فمن صدق لا يخذل أبدا. 

 فعلى إثر ذلك -عباد الله الكرام-نمد أيدينا ببركة الجماعة والاجتماع على الخير عقب الصلاة في اليوم أفضل أيّام الأسبوع لإخواننا حيث كانت الأسباب المأخوذة من المهتمين تحول دون تحقيق رفع المعاناة التي تعانيها إخواننا في غزة فلا نملك ولا يعد أمامنا سوى أسباب السّماء وأحد أبواب النصر الكبرى الذي هو الدعاء بالافتقار والتضرّع  إلى الله سبحانه وتعالى حيث يقول : ” وَقَالَ ربُّكمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” (الغافر:60)

فهذه الدّعوة رسالة من الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين إلينا جميعا لنخصّص دعواتنا اليوم من أجل رفاقنا المضطرّين في بلد العزّة لأنّ محنتهم هي مهنتنا ومعاناتهم هي من أجلنا “والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ومن لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم .

فنسأل الله جلّ وعلا أن ينصرنا وينصرا الإخوى نصرا معزّرا في أقرب وقت ممكن فلا حل لنا ولا قوّة لنا إلاّ بك.

الدعاء: اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، وألِّف بين قلوبهم، ووحِّد صفوفهم، ووفِّقهم لاتِّباع كتابك وسُنة نبيِّك، اللهم هيِّئ لنا الأسباب لتحرير المسجد الأقصى، واهْدِ المسلمين حُكَّامًا ومحكومين لإقامة شريعتك، ونصرة دينك.

اللهم عليك باليهود المعتدين، وبمن يعينهم من النصارى والمنافقين، اللهم انتقم منهم، وخالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين.إنك مجيب الدعوات وبالإجابة جدير والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.  

Scroll to Top