بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الرابعة لشهر ربيع الأوّل بتأريخ 26 ربيع الأول 1447ه الموافق ب (19\9\2025م)
حول: الأسرة المسلمة بين التحديات والحلول
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، نحمدُهُ سبحانه وتعالى ونشكرُه، ونستعينُه ونستهديه، ونستغفرُه ونتوبُ إليه. مَن يَهدهِ اللهُ فهو المهتدي، ومَن يُضلل فلن تجدَ له وليًّا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه.اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى كل مَنِ اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد، فعبادَ الله، أوصيكم ونفسي المقصّرة أولًا بتقوى الله عز وجل سرًّا وجهرًا، إذ هي الغاية المقصودة من جميع الطاعات وكافة المأمورات والمنهيات. قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 21).
إنَّ من أهداف الشريعة الإسلامية هو إيجاد أُسَر مسلمة ومجتمع مسلم حامل لمنهج الله، منفذًا لشريعته، منقادًا لأوامره ونواهيه، يدينُ بِدِين الإِسلام، ولذا كانت أعين أعداء الإسلام على الأسرة المسلمة متجهة نحوهم، ولقد أصاب المسلمين ما أصابهم بعد سقوط الخلافة، إلا أن الأسرة المسلمة ظلت هي مصنع الرجال، ومستودع القوة الباقي للأمة، ولا شك أن هذه التحديات منها ما نتسبب فيها لأنفسنا، ومنها ما هو من كيد أعدائنا، ويندرج ضمن محاربتهم لعقيدتنا وأخلاقنا.
عباد الله إليكم بعضًا من هذه التحديات التي تهدد كيان الأسرة المسلمة:
ضعف الدين وتضييع الأمانة
وإذا ضاع الإيمان فلا أمان، ولا دنيا لمن لم يحي دينا، وإذا كانت المرأة تنكح لعدة أغراض: لجمالها ولمالها ولحسبها ولدينها، فوصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «فاظفر بذات الدين تربت يداك» أخرجه البخاري ، وحذر من المرأة السوء.
وضعف الدين وتضييع الأمانة، والإعراض عن ذكر الله خطر عظيم يهدد الأسر بالضياع، وتضيع معه التربية النافعة للأسرة من بنين وبنات، وتنسى الأهداف الجليلة لقيام الأسرة المسلمة، وهو سبب لحياة الضنك والشقاء سواء كان ذلك من قبل الرجال أو النساء قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124].
قال ابن كثير: أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة.
وتتحقق السعادة الأسرية بالإيمان وعمل الصالحات، {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، هؤلاء السالكون، وما ذكر من أعمالهم وأحوالهم هو سلوكهم؛ ولما سلكوا الصراط المستقيم، بالعمل المستقيم، انتهى بهم السير إلى أحسن قرار ومقام، إلى دار النعيم المقيم، في جوار الرحمن الرحيم.
وفي الخبر الصحيح: «قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دينك ودنياك، خير ما اكتنز الناس».
فإن هذه الثلاثة جامعة لجميع المطالب الدنيوية والأخروية وتعين عليها، وإنما كان كذلك لأن الشكر يستوجب المزيد، والذكر منشور الولاية، والزوجة الصالحة تحفظ على الإنسان دينه ودنياه وتعينه عليهما.
الصحبة السيئة:
وتشكل صويحبات السوء خطرًا تهدد الأسرة بالانهيار، وذلك بما تهديه من عطايا محرمة، أو تبثه من كلام مسموم، وإن بدا ظاهره النصح أو تبادل الهدايا، وسواء كان ذلك عبر صديقة العمل أو زميلة الدراسة أو مفسدة الغيبة أو النميمة أو قائلة السوء، أو عبر سماعة الهاتف؛ فكل ذلك خطر لا بد من الحصانة منه.
قال ابن باديس: إذا أردت أن تعرف شر خلانك، وأحقهم بهجرك له وابتعادك عنه: فانظر فيما يرغبك هو فيه، وما يرغبك عنه؛ فإذا وجدته يرغبك عن القرآن، وعما جاء به القرآن فإياك وإياه، فتلك أصدق علامة على خبثه وسوء عاقبة قربه، فابتعد عنه في الدنيا، قبل أن تعض على يديك على صحبتك له في الأخرى.
وإذا وجدته يرغبك في القرآن وما جاء به القرآن، فذلك الخليل الزكي الصادق، فاستمسك به، وحافظ عليه. وإن خلة أسست على الرجوع إلى القرآن، والتحاب على القرآن، والتناصح بالقرآن؛ لخلة نافعة دنيا وأخرى، لأنها أسست على أساس التقوى، وقد قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]
وإن عداء الأخلاء لينبع من معين ودادهم، لقد كانوا في الحياة الدنيا يجتمعون على الشر، ويملي بعضهم لبعض في الضلال، فاليوم يتلاومون، واليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضلال وعاقبة الشر، واليوم ينقلبون إلى خصوم يتلاحون، من حيث كانوا أخلاء يتناجون! {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فهؤلاء مودتهم باقية فقد كان اجتماعهم على الهدى، وتناصحهم على الخير، وعاقبتهم إلى النجاة (في ظلال القرآن (5/ 3201).).
تسليم قيادة الأسرة للمرأة:
لما كان الرجل يقضي معظم وقته في العمل، فلم يعد متفرغًا لرعاية أسرته وتربية أولاده إلا القليل، فالأب يعود مساء إلى بيته ليأكل وينام، ومن ثم يذهب في الصباح الباكر إلى عمله، ولا يعلم كيف تقضي زوجته وأولاده أوقاتهم، وأين يذهبون، وكيف يخرجون، وترك لهم الحبل على غاربه، كل ذلك أدى إلى مشاكل كارثية تهدد الأسرة، بسبب غياب الربان والقائد والموجه لسفينة الأسرة، وعدم قيامه بالدور المطلوب منه.
قال تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ} [النساء: 34]، فالحياة الزوجية حياة اجتماعية ولا بد لكل اجتماع من رئيس؛ لأن المجتمعين لا بد أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور، ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إلى رأيه في الخلاف؛ لئلا يعمل كل على ضد الآخر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة، ويختل النظام، والرجل أحق بالرياسة لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بقوته وماله، ومن ثم كان هو المطالب شرعا بحماية المرأة والنفقة عليها، وكانت هي مطالبة بطاعته في المعروف
توسيع دائرة الخلاف:
خلاف الزوجين دون تبصر، وتحميل الأمور ما لا تحتمل، وتعظيم الصغائر، وتوسيع دائرة الشقاق، وإدخال أكثر من طرف في الخلاف، كُلُّ ذلك يهدم الأسر ولا يبنيها، ويعجل بانفراط عقدها وتشاحن أفرادها، والشديد ليس بالصرعة، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب، والحلم والصفح والعفو أخلاق كريمة دعا إليها القرآن، وليست مؤشرًا للضعف أو دليلًا على الهزيمة كما قد يوسوس بها الشيطان، ألا وإن خير الناس بطيء الغضب، سريع الفيء، وشرهم سريع الغضب، بطيء الفيء.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أمر بنصرة المظلوم، ووعد بالفرج لعباده الصابرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحلول:
1- القوامة الفعالة: إن قوامة الرجل على أهله ليست بتأمين حاجاتهم المادية فقط، فهناك أمور أخرى ينبغي عليه متابعتها والاهتمام بها ألا وهي الجوانب الأخلاقية والنفسية لزوجته وأولاده، ومتابعة سلوكهم وتصرفاتهم، واستشعار عظمة المسؤولية الملقاة على عاتقه، كما جاء في الحديث: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (أخرجه البخاري ومسلم)
2– اغتنام الوقت: وخاصة أوقات العطل والفراغ والمواسم المباركة للجلوس مع الأسرة، والاستماع إلى مشاكلهم ومعالجتها، وتعليم الرجل زوجته وأولاده صفحة من القرآن، وقراءة كتاب رياض الصالحين، ولو حديثًا واحدًا كل يوم، وسؤال الزوجة والأولاد عن صلاتهم وصيامهم وأورادهم اليومية، كل ذلك يؤدي إلى تماسك بنيان الأسرة وصلاحها.
3– مراقبة الأولاد: ووضع برنامج لهم بمساعدة الزوجة للدخول إلى الانترنت ووسائل التواصل، وليكن ساعة مثلًا في اليوم؛ لأن ادمان الدخول إلى هذه الوسائل يجعل المرء أسيرًا لأهوائه وشهواته، ومن واجب الأب معرفة أصدقاء ولده الحقيقيين والافتراضيين؛ لأن المرء على دين خليله.
4- تنمية الوازع الديني: في قلوب أفراد الأسرة، وزرع بذور المحبة والوئام بينهم، وذكر نماذج من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح مع زوجاتهم وأولادهم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الوازع الديني هو القوة الإيمانية الرهيبة التي لو خلا العبد معها بحد من حدود الله عز وجل؛ ما استطاع أن يفكر في اقترافه فضلًا عن أن تمتد له يد، أو تلتبس جارحة من جوارحه بذلك الحد الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
5- إفساد مخططات الأعداء: كم تحتاج الأمة إلى الرجال الصادقين الصالحين الذين يفكرون لها؛ ويتشاورون في قضايا أمتهم ودينهم، ويكشفون مخططات الأعداء، ويعدون العدة؛ لإنقاذ أمتهم من الوقوع في براثنهم، ويحفظون دينهم من التشويه، والنقص أو الزيادة، ويبلغونه كما جاء من عند الله، ببيان الحقائق، وكشف مخططات الأعداء وأساليبهم، ومن يجاريهم ويسير في دربهم وعلى مناهجهم، حتى تتكون لدى عامة المسلمين ثقافة المناعة والامتناع أمام الغزو الفكري.
أسأل الله أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيّه، وأن يُبطل كيد الأعداء، وأن يوفّقنا لأن نكون في مستوى التحدّيات والتآمرات التي تُحاك لحرب ديننا، ومن أعظم ما بُلينا به أننا نلدغ من جُحُور الكفار مرات وكرات.
الدعاء:
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر المستضعفين في غزة والضفة، اللهم ارحم شهداءهم، واشفِ جرحاهم، وفكَّ أسرهم، اللهم احفظ قطر وسائر بلاد المسلمين من كيد الأعداء، اللهم اجعل كيد الصهاينة في نحورهم، واشدد وطأتك عليهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين. اللَّهُمَّ انْصُرِ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِكَ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَوَحِّدْ صُفُوفَهُمْ، وَوَفِّقْهُمْ لِاتِّبَاعِ كِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ. اللَّهُمَّ هَيِّئْ لَنَا الأَسْبَابَ لِتَحْرِيرِ المَسْجِدِ الأَقْصَى، وَاهْدِ المُسْلِمِينَ حُكَّامًا وَمَحْكُومِينَ لِإِقَامَةِ شَرِيعَتِكَ، وَنُصْرَةِ دِينِكَ. اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِاليَهُودِ المُعْتَدِينَ، وَبِمَنْ يُعِينُهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَالمُنَافِقِينَ. اللَّهُمَّ انْتَقِمْ مِنْهُمْ، وَخَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا تُرَدُّهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ. إِنَّكَ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَبِالإِجَابَةِ جَدِيرٌ، وَالقَادِرُ عَلَيْهَا. وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.