حكم من كذب بالبعث والنشور والحساب

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى لشهر جمادى الآخرة بتأريخ 4/6/ 1446ه (6/12/ 2024م)

الموضوع: حكم من كذب بالبعث والنشور والحساب .

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِهِ الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبدالله، صلى الله وسلم وبارك عليه ما تعاقبت الليالي والأيام.

أما بعد:

  فيا أيها الناس, اتقوا الله تعالى, وأطيعوا ربكم, الذي أوجدكم من عدم، ورباكم بالنعم، والذي يعيدكم إلى الآخرة؛ ليجازي كلا بما عمل، فمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فإلى جنات النعيم، ومن اتبع هواه إلى الجحيم، يوم عظيم يجمع الله فيه الأولين والآخرين. قال تعالى:  ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

عباد الله، مسألة كبرى بعد الإيمان بالله، وقضية عظمى بعد توحيد الله، تكفل بها الوحي، وبرهنت عليه الكتب، وبلَّغتها الرسل. إنها قضية البعث والنشور، والخروجِ من الأجداث والقبور، والوقوفِ بين يدي الكبير المتعال للحساب والجزاء وعرض الأعمال، ثم المصيرِ إما إلى الجنة وإما إلى النار. ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]

ما من شيء في دعوة رسل الله استبعده الكفار وأنكرته الملاحدة واستهزأت به الزنادقة أشد من إنكارهم لليوم الآخر، فتراهم أجيالاً من بعد أجيال من أمم الكفر والإلحاد ينكرون ويستهزئون ويستبعدون، ولقد سجل القرآن الكريم افتراءهم العظيم، وإفكهم المبين في آيات كثيرة: ﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [الرعد: 5].

ويتولى القرآنُ الردَّ بالبرهان، فحينما يتطاولون على الله بعنادهم، وحينما يكشفون عن بلادتهم، يأتي الدليلُ ناصعًا بينًا، والحجة جلية ظاهرة: ﴿ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 66، 67]. ثم تأتي الغيرة الإلهية من خلال هذا القسم العظيم: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 68، 69]

عباد الله، مساكين أهلِ المادة والإلحاد ينساقون وراء ماديّاتهم ويغرقون في دناياهم في طيش وغفلة، محجوبون عن البصر والتبصر،﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴾ [القيامة: 5، 6]

هل يُسيغُ العقلُ أن يبقى المجرمون في أمنٍ وعافيةٍ وأمانٍ من العاقبة؟! لا وربك ثم لا… وكلا وعزة الله وجلاله ثم كلا… لابد من موقفٍ ويومٍ يُجزى فيه المحسنُ على إحسانه، والمسيءُ على إساءته، هذا هو نهج العقل والإيمان، والعلم والحكمة برهان ذلك: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27].

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 21، 22]

أيها الإخوة، إن الذين لا يؤمنون بالآخرة والذين يكذِّبون بيوم الدين يعيشون في بؤس وشقاء لا أمل لهم ولا رجاء، لا يرجون عدلاً في الجزاء ولا عوضًا عمّا يلاقون في الدنيا من عناء. إن الذي لا يؤمن بيوم الحساب لا يعدو نظرُه حياةَ الدنيا القصيرة القاصرة في حدود أرضه الضيقة، ومدَّةَ عمره القصير، فهو من ضيقٍ إلى ضيق ومن بؤس إلى مسكنة.

لقد ضلوا وأضلوا، وما ضلوا إلا بما نسوا يوم الحساب، وما اجترءوا على حرمات الله وأفسدوا في أرض الله، وما ظلموا وتظالموا إلا لأنهم كانوا لا يرجون حسابًا.

أما المصدقون بيوم الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون، فاستقاموا على الحق والتوحيد، ونبذوا الشرك وأصلحوا عملهم، وأخلصوا لربهم، يحملهم إيمانهم باليوم الآخر والتصديق بلقاء ربهم؛ يحملهم على الصبر والتحمل، والبذل والإحسان، لا يبتغون من أحدٍ غير الله جزاءً ولا شكورًا.

وكما قاموا بعبادة ربهم وأخلصوا له فقد قاموا بحقوق عباده وعدلوا معهم وتركوا ظلمهم، لأنهم يؤمنون بيوم الدين.

عباد الله، ورب السماء والأرض لتُخرجنَّ من قبوركم ولتُحشرنَّ إلى ربكم ولتُحاسبنَّ على أعمالكم ولتُجزونَّ بما كنتم تعملون. لتُروُنَّ كلَّ أعمالكم الصغير والكبير؛ القليل والكثير، وذلك على الله يسير.

يوم البعث – عباد الله – يوم مشهود تعددت أسماؤه لعظيم أهواله وأعماله. فهو يوم الحشر والنشور، ويوم الفصل والقيامة، ويوم الدين والحساب، ويوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، حين تَحُقُّ الحاقة، وتَقَعُ الواقعةُ والقارعة، وتجيء الصاخةُ والطامة، يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ذلك يوم الخروج، يوم تبلى السرائر، وتتكشف خبيئات الضمائر، وحينئذٍ يكون كلُّ إنسانٍ حسيبَ نفسه ورقيبَ عملِه ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 14]. تشهد عليه صحائفه، وتحكم عليه أعماله وتنطق عليه جوارحه: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]. ﴿ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت:20، 21] ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾ [المدثر: 38].  ﴿ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164].

اللهم إنا نسألك نفوسا لك مسلمة، بك مؤمنة، تعمل للقائك، طمعا في عطائك؛ وخوفا من عقابك.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب…

الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسوله محمد وآله و أصحابه أجمعين.

أما بعد فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية، يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجًا حفاةً عراةً غرلاً، في موقف يُذِيبُ هولُه الأكباد، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الداعي، ويَنفُذُهم البصر، يجمع الله فيه بين كل عاملٍ وعملِه، وبين كلِّ نبيٍّ وأمته، ومظلومٍ وظالمه: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17].

الأبصار شاخصة، والشمس من الرؤوس دانية، قد علا أهل الموقف العرق، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يفرُّ فيه المرء من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه، أهوالٌ شداد، وأحوالٌ عظام، تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات، فالسماء فرجت وكشطت وانشقت وفتحت فكانت أبوابًا، والشمس كورت وخسف القمر وجمع الشمس والقمر. والنجوم انكدرت وطُمست وانتثرت، أما الأرض فسجِّرت بحارها تسجيرًا، ودكت جبالها دكًا ونسفت نسفًا وسُيرت فكانت سرابًا، وزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها، وحدَّثت أخبارها، وألقت ما فيها وتخلَّت.

وحينئذٍ يحشر المتقون إلى الرحمن وفدًا فنعم الموفد ونعم الوافدون، ويساق المجرمون إلى جهنم وِردًا ظمأى عطشى، يتمثل لهم السراب كالماء وما هو إلا الحرّ والسعير، والنار والزفير، عياذًا بالله من غضبه وأليم عقابه.

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأعدوا العدة ليوم العرض والحساب وقراءة الكتاب، وجواز الصراط، وإثقال الميزان فالساعة آتية لا ريب فيها لا تأتيكم إلا بغتة، لا يجليها لوقتها إلا الله جل جلاله

عباد الله، فمن لم يؤمن باليوم الآخر أو بالبعث هو في أكبر درجات الكفر، وحكم التعامل معه يكون مثل التعامل مع سائر الكفار، فيدعى إلى الإسلام، وإلى التوبة مما هو فيه من الشرك، وإذا تيقن الداعي له أنه لا يستجيب وجب ابتعاده عنه لئلا يفسد عليه دينه. والعياذ بالله.

أيها الإخوة المؤمنون اعلموا أن الإيمان باليوم الآخر مقرون بالإيمان بالله، فمن لم يؤمن باليوم الآخر لم يكن مؤمنا بالله. وقد ورد الارتباط بين الإيمان بالله واليوم الآخر في أماكن كثيرة من الكتاب والسنة. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا {النساء:38} . وقال تعالىوَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ {البقرة:177}. وقال تعالى:  قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ {التوبة:29}

وقرر ربنا سبحانه عود الأجساد, بعدما يأكلها التراب, وينخرها الدود بثلاثة أمور:

الأول: كمال قدرته، فلا يعجزه شيء، قال تعالى: ( أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) [القيامة:4]، وقال: ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) [القيامة:40].

والثاني: قرره بكمال علمه, فقال: ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يّـس:79].

والثالث: قرره بكمال حكمته، فقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115]، ولا ريب بالبعث إلا من هو أحمق خاسر كافر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [التغابن:7].

وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل المشهور: …  قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره، قال: صدقت.

وقال تعالى في الحديث القدسي: ”  كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم, ولم يكن له ذلك. أما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، أليس إعادته بأهون علي من بدايته؟! وأما شتمه إياي, فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الله الواحد الأحد، الذي لم يتخذ صاحبة, ولا ولداً“.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب, فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الدعاء: اللهم اجعلنا من الفائزين، واجعلنا من السعداء في الدنيا والآخرة، اللهم اجعلنا يوم القيامة تحت ظل عرشك، يوم لا ظل إلا ظلك. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه وصلوا وسلموا على البشير النذير.

Scroll to Top